أحلام الجملة الثورية
معركة بيروت الصمود بمقدار ما تحمله من نقاط القوة الفلسطينية المتميزة فهي تحمل في طياتها نقاط لابد من التوقف عندها، فمن ناحية القوة والتي كانت واضحة على حجم القوى التي زج بها العدو في لبنان، وهي تقدر بخيرة وافضل وحداته المقاتلة التي استطاعت ان تتحرك بفاعلية وتنسيق راقي المستوى في حرب تشرين أوضح قدرتها اللوجستية في اختلاف الساحات والميادين التي شكلت حقول المعركة الحديثة، وعلى القدرة في التكيف السريع واختيار الصنوف المشاركة في احدث التشكيلات للمعركة في المناطق الصحراوية في سيناء وكذلك الجبلية على جبهة الجولان،وتقدر حسب المصادر الإسرائيلية في حينها بثمان فرق ونصف معززة بأفضل سلاح جوي وبحري وبري في المنطقة كلها. فكان النصر لهذه القوة والحجم والكمية المستخدمة فيها من المعدات والعتاد تعطي القيادة الفلسطينية وقواتها المشتركة الحق في التمايز الواضح لهذه القدرة العجيبة والمنفردة في مواجهة تلك القوة التي لا توصف في حجم ما تملك من قوة في النيران والقدرة العملياتية التي كانت تدار بغرف عمليات ميدانية موجهة بطائرات الهوك "1 " التي تستطيع توجيه التعليمات اللازمة لضربه والتعامل ميدانياً ضده.
كان للقدرة الفلسطينية على مواجهة افضل ثمان فرق في الجيش الإسرائيلي وهي تلك التي اخترقت غرب قناة السويس .. واخترقت حتى حدود سعسع وتل شمس والسفوح الشرقية لجبل الشيخ، وبموازاة بلدة عرنة غرباً مروراً بقرى دربل وكفر حور وبيت سابر إلى مشارف مخيم خان الشيح شرقاً والتي أصبحت في مرمى الأسلحة المباشرة حيث أصبحت مدينة قطنة التي تعد اقرب مدينة إلى دمشق بمرمى من الأسلحة المباشرة من الدبابات التي تقف على تل شمس. في حرب تشرين 1973م كان لقوات الثورة الفلسطينية الحق في التفوق المعنوي على هذه القوة التي منحت غطاءً سياسياً من اكبر قوة عالمية وهي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أكد الكسندر هيج وزير الخارجية الأمريكية بان ذلك الغطاء كان مشروطاً في بداياته بان تكون الضربة ساحقة مركزة تفقد الثورة الفلسطينية إمكانية التواجد في الجنوب اللبناني، وكانت الموافقة الأمريكية بحدود إقصاء وأبعاد مدفعية الثورة الفلسطينية وصواريخها وراجماتها إلى المسافة التي عبروا عنها( بسلامة الجليل ) وهي بحدود ( 45 ) كم. وكان المدى الزمني لإنجاز هذه العملية( 48 ) ساعة، كان ذلك في البداية إلى ان فشلت القوات الإسرائيلية في تحقيق ذلك لعنف المقاومة في القطاع الغربي والأوسط من الجنوب اللبناني، وللتداخل بين قوات الثورة الفلسطينية والقوات العربية السورية المتواجدة في القطاع الشرقي الممتد من البقاع الغربي حتى بلدة العيشية، وكذلك محور العرقوب الذي كان يمتد من مرج عيون، كوكبه، حاصبيا، إلى بيادر العدس وبعلبك شمالاً، النصر لهذه القوات لمدة تزيد عن الستة أيام وعنف القتال الذي جعل الثورة الفلسطينية وقواتها وتحالفها القوي مع الحركة الوطنية اللبنانية تتمايز في قتال غير متوازن في العدد والمعدات. جعل الولايات المتحدة تمدد الطلب الإسرائيلي، ولكنه كان مشروطاً، بانه إذا لم يتم سحق الثورة الفلسطينية في الوقت المحدد لا بد أن تعترف إسرائيل بهذه القوة وهذا ما رددته وكالات الأنباء العالمية في حينه..واستمر الاستدراج الإسرائيلي للموقف الأمريكي الذي كانت تتطور أهدافه استناداً للتطورات الميدانية ولحجم القوى التي تم زجها في المعركة إلى أن تم حصار بيروت ..وبحصار بيروت وصمودها اقتربت من نهاية الشهر الثالث.. وفي أجواء لم يكن فيها أي نوع من أنواع التحالفات التي تحتاجها المعركة أو يفرضها الواقع.. فقط بل تفوق للقوى العظمى التي تقف إلى جانب القوة الإسرائيلية .. فغاب الموقف العربي غياباً كاملاً باستثناء الأيام الأولى التي شهدت قتالاً على المحور الشرقي كان من نتائجه ان أصبحت الدبابات الإسرائيلية على مقربة من طريق دمشق بيروت الدولي، وكان لديها القدرة على قطع هذا الطريق بسهولة من منطقة حلوة وينطا، وكذلك من السلسلة الجبلية ( الباروك ) التي تم السيطرة عليها وهي التي تشرف على منطقة الشوف غرباً والبقاع الغربي شرقاً، وهذا التمايز الفلسطيني في مواجهة القوى الإسرائيلية المدعومة بالموقف السياسي والعسكري جعل الثورة تثق بتحالفها الوحيد مع الشعب اللبناني وحركته الوطنية للتصدي للقوى المهاجمة دون حليف دولي حيث أن الاتحاد السوفيتي لم يكن قادراً على إرسال باخرة تحمل مواد طبية وأغذية .. حتى تشعرنا وتشعر العالم أن الاتحاد السوفيتي لصديق قادر على اختراق الحصار .. فهذا لم يكن تفوقاً للثورة الفلسطينية مما جعل العدو يقاتل مسنوداً بتحالف عالمي عجيب ومعقد، وكذلك الموقف العربي والذي كانت فيه الأمة غائبة بل تغفو طويلاً، فقد أسكرته مباريات كأس العالم حيث كانت تشغله طول النهار والليل وهي تبعد عن ذاكرته وأعينه صور القصف الجوي والصاروخي الذي كان يقتلع كل شيء، بل في مناطق عديدة كان يعرض بعض المناطق إلى انعدام وجود الأوكسجين لاستخدام القنابل الفراغية الحديثة، فكان للثورة الفلسطينية أن تتمايز في قدرتها وطاقتها المعنوية الهائلة والتي كانت توازي التفوق الإسرائيلي في المعدات والعتاد، وحولته من وضع الهجوم إلى وضع الدفاع المتحرك لمدة تزيد عن تسعة وثمانين يوماً وبغياب القدرة العربية المساندة أو الداعمة أدى إلى :-
أولاً ـ إنه أفقدنا القدرة في الدفاع عن المبادئ في اتجاهين : الاتجاه الاممي حيث أن الجبهة العالمية والتي كان المتمركسون في ساحتنا واليساريون العرب يراهنون عليها قد انهارت تماماً عندما طلب باخرة تموين من ذلك المعسكر لتخرق الحصار، لكنها لم تأت إلى نهايات الحصار، وقد كانت تشكل بداية المؤشرات على انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية.
ثانياً ـ حرماننا من أي فرصة للدفاع عن الموقف القومي، حيث أنه وباستثناء بعض الطلعات الجوية السورية في الأيام الأولى للقتال والتصدي السوري في معركة بيادر العدس على محور السلطان يعقوب المنارة المصنع والتي أكدت نجاح القوات السورية في وقف اندفاع القوات الإسرائيلية باتجاه بعلبك وحمص والالتفاف لمحاصرة دمشق من أكثر من اتجاه وحددت حدود الفصل بين هذه القوات وقد تم أسر خمس دبابات إسرائيلية تم إهدائها لقوات الصاعقة حيث نقلت لدمشق ليستعرضوها في شوارع مخيم اليرموك، وباستثناء ذلك غابت الأمة كلها عن المعركة وإن كان قد وصل إلى البقاع بعض المتطوعين الذين كانوا عبئاً ثقيلاً ومطلوب إيواؤهم وإطعامهم ونقلهم لانعدام تدريبهم ومعرفتهم بالأرض .. وكان الواقع العربي مؤلماً ومريراً ومتخلفاً في ردة فعله. وتم توضيح ذلك بالموقف الذي كشف عورة الأمة والذي ترك بصماته السياسية الواضحة على بشاعة الخط القومي وانحداره وانعدام قدرته على إحداث الاستثمار المطلوب كتحريك الموقف الغربي حتى في إطار التسوية السياسية ليصبح أفضل وأقرب للشروط العربية. ولم يكن لديهم أية نية لزج أية قوة أو المشاركة في المعركة إذ أن حجم القوى التي تم زجها من الجانب الإسرائيلي والتي غادرت فلسطين المحتلة إلى وعورة الطرق والمسالك اللبنانية، وحجم التحالفات مع العدو وغياب تلك التحالفات عن الموقف الفلسطيني، وكذلك غياب الدعم العربي سياسياً ومادياً وعسكرياً للثورة الفلسطينية، كما يقول الأخ / أبو عمار:" كل ذلك جعل من معركة بيروت الصمود معركة متميزة وفريدة من نوعها في اتجاهات عديدة لابد من الحديث عنها عند كتابة تاريخ الأمة لاحقاً"، ولكن إلى جانب التمايز الفلسطيني وإلى جانب عناصر القوة في هذا التمايز إلا أن معركة بيروت كانت تتفاعل فينا .. وتتصارع فيها كل عناصر القوة والضعف فتعصف في فكرنا .. وأصبح كل منا يحمل في داخله كل التناقضات في الواقع السياسي الفلسطيني والعربي والدولي مما فرض على كل واحد منا المراجعة السياسية والأيديولوجية والوقوف على سلامة النظرية، والعودة إلى السؤال المتجدد: هل الخطأ في النظرية أم في التطبيق؟: هل الخطأ في الثورة أم في قيادتها؟: هل الخطأ في المفاهيم القومية أم في القوميين أنفسهم؟: هل الخطأ من اليساريين العرب أم في الاتحاد السوفيتي نفسه؟: أين الخطأ وما هي أسباب الخطأ وما العمل؟؟ فخرجنا من بيروت ونحن نتفاعل ويجري الغليان في ذاتنا، البعض منا يرى أن القيادة التاريخية قيادة أسطورية وعظيمة لأنها نجحت في إدارة الصراع بشكل مشرف، ولم يخرج في صفوفها أي حالة من حالات الهروب أو الجبن في ميادين القتال وجميعها كانت تتناغم مع بعضها البعض .. والبعض منا كان يرى أنها المسؤولة عن خروجنا من بيروت والذي افقدنا أهم قاعدة ارتكازية ندير شؤوننا فيها بكل حرية .. والبعض الآخر كانت تدور في داخله أفكار جزء منها شوقاً لشاشات التلفزيون، وغرور العظمة وحب الذات والتباهي بدوره .. وحبه للظهور شوقاً وتقمصاً لشخصية البطل المنقذ ومحاولا التقدم لتولي المناصب السياسية والقيادية، والبعض خرج مجروحاً مطعوناً بكرامته وكبريائه العسكري مع أنه كان البطل في كل مراحل الكفاح المسلح يعرف الحقيقة ويتحمل المسؤولية ويقبض على الجمر، ونتج عن هذه التفاعلات لجنة عليا للتحقيق برئاسة الأخ اللواء / أبو الحكم مسؤول القضاء الثوري لمعرفة الخلل وتحديد المسؤوليات والوقوف على أدق التفاصيل وكان لها أن التقت مع كل من تريد اللقاء به من الضباط والجنود والعناصر ويمكن الحديث عن ذلك لاحقاً، لكن تشكيل تلك اللجنة كان مؤشراً على حجم ما أصبنا به بعضنا البعض من تجريح واتهام بالتقصير من جانب. ومن جانب آخر كانت جميع الأفكار تلتقي عند نقطة واحدة وهي لابد من المراجعة .. لا بد من وقف حالة التردي في صفوفنا .. لا بد من العودة إلى مواقعنا في لبنان لاسترداد قواعدنا الارتكازية.. لا بد من العودة للجنوب، لابد من إسقاط نظرية سلامة الجليل لابد من إعادة البناء التنظيمي لفتح وفي هذا الاتجاه رفع البعض شعار الثورة في الثورة وهو ما ركز عليه الكاتب الثوري ريجيس دويرية الذي كتب عن الثورة الكوبية وألف كتاباً جعل عنوانه الجملة الثورية وقد تقمصها البعض منا معتقداً أنه يمكن أن يفجر براكين الأمة ويزلزل عرش إسرائيل، فمس بذلك عرش منظمة التحرير الفلسطينية عندما أصاب قلعتها الفتحوية