في 28 حزيران (يونيو) عام 1919 وقعت الدول الأوروبية المستقلة، باستثناء الاتحاد السوفييتي، ميثاق عصبة الأمم الذي نص بنده الثاني والعشرون على نظام الانتداب الذي حدد بدوره حالة فلسطين.
وكان الانتداب غطاء الإمبريالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي شهدت قبل نهايتها ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى في روسيا القيصرية، وانتهت تبعاً لذلك وبتأثير هذه الثورة بنقاط الرئيس الأمريكي ويلسون التي عرفت التي عرفت بالنقاط الأربع عشرة وأوحت بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
واعترف الانتداب- وكان على درجات – مبدئياً بحق الشعوب بحكم نفسها بنفسها، ولكنه اعتبر تلك الشعوب قاصرة على ذلك آنذاك، وأوكل أمرها لدولة كبرى "تأخذ بيدها في مدارج الرقي"! حتى تقف على أقدامها وتستقل بأمورها، وعندئذ ينتهي نظام الانتداب.
وأوكل مجلس مؤتمر السلام الأعلى أمر الانتداب على فلسطين ببريطانيا أثناء اجتماعه في سان ريمو في 25 نيسان (ابريل) عام 1920. كما وزع الانتدابات الأخرى على الدولتين الإمبرياليتين بريطانيا وفرنسا.
وخلال هذه الفترة اشتد الصراع بين بريطانيا وفرنسا حول حدود فلسطين . وكما يقول فروس آدم أحد الأخصائيين البريطانيين في مؤتمر السلام استخدمت بريطانيا الحدود التي كان يزعم الصهيونيون أنها حدود فلسطين في مجابهتها فرنسا (فكرة الدولة الصهيونية بن هلبرن ص296). وبذلك وصلت إلى ذروة الاستفادة من وعد بلفور للفوز بحصة الأسد في سوريا، وفعلا استطاعت بريطانيا أن تقتطع لنفسها فلسطين وشرق الأردن.
وأقر مجلس عصبة الأمم نظام الانتداب على فلسطين في 24 تموز (يوليو) عام 1922، وكان ذلك الإجراء اعتراف بواقع الاحتلال البريطاني الذي بدا في نهاية الحرب العالمية الأولى.
أما المعركة في فلسطين فلم تنتظر إقرار الانتداب رسميا، بل بدأت قبله بكثير.
المعركة مع الإمبريالية واصطدامات بين العرب واليهود
ويقع بعض المؤرخين وبينهم مؤرخون عرب في "خطأ" تاريخي، مغرض في أكثر الأحيان، حين يبدأون بتدوين كفاح الشعب العربي في فلسطين بالاصطدامات بين العرب واليهود في نيسان (ابريل) عام 1920.
الحقيقة أن بداية المعركة كانت في رفض الحركة القومية العربية الموحدة في سوريا الطبيعية، الاحتلال ووعد بلفور ومطامع الصهيونية.
وتطورت المعركة مع الإمبريالية البريطانية حتى من قبل أن ينفصل "القطاع الفلسطيني" عن الحركة القومية العربية في سوريا الطبيعية ويتلاءم مع ظروف التجزئة الإمبريالية في العالم العربي المشرقي
ولعل بداية موجة عام 1920 كانت في تلك المظاهرة الضخمة التي اشترك فيها 40 ألف مواطن وطافت في القدس في 27 شباط (فبراير) 1920.
لقد أعقبت هذه المظاهرة، وكانت الأولى من نوعها في القدس، اجتماع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد بدعوة من حاكم البلاد البريطاني الجنرال بولز.
ففي هذا الاجتماع صرح الجنرال بأن مجلس الحلفاء قرر أن يدمج وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين في معاهدة الصلح مع تركيا، وأن بريطانيا قبلت الانتداب على البلاد، وأنها ستحافظ على الحريات الدينية وتسمح للمهاجرين بدخول البلاد قدر حاجتها إلى النمو.
وأضاف:" وتسيطر حكومة بريطانيا على المهاجرة ولا يخرج أصحاب الأملاك الحاليون عن أملاكهم ولا تنزع منهم ولا تمنح امتيازات اقتصادية لأفراد أو جماعات إذا كان منحها ضررا لغيرهم. فالحكم سيكون للحكومة البريطانية ولا يسمح بحال من الأحوال لأقلية أن تسيطر على الأكثرية من السكان".
وقبل المظاهرة تألفت جمعيات إسلامية- مسيحية في مدن فلسطين واتفقت على مذكرة أعلنت فيها: "إننا لا نتخلى عن مطالبنا المنحصرة في استقلال سوريا المتحدة من طوروس إلى رفح ونرفض الهجرة الصهيونية رفضنا باتا ونرفض فصل فلسطين عن سوريا... لأن فصل فلسطين عن سوريا يضر بمصالح البلاد الاقتصادية والعمرانية... وبمصالح الوطنيين القومية والمحلية".
وأضافت: أن الأراضي تكفي لأهلها الذين هم في ازدياد مستمر وستسبب الهجرة الشغب والثورة الدائمين.
وهكذا كانت المظاهرة احتجاجا على التجزئة الإمبريالية أولاً، والاحتلال الذي جرد الشعب من استقلاله ثانيا، وعلى وعد بلفور ثالثا.
وقد طاف المتظاهرون على قناصل الدول الأجنبية وسلموهم احتجاجات بهذه الروح.(فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونيةص37-38).
وهنا لابد من دحض تزييف الرجعيين من بريطانيين إمبرياليين وصهيونيين حاقدين، حقيقة الحركة القومية العربية في فلسطين وتصوريها، تصويرا عنصريا، (!)، بتضخيم الاصطدامات بين العرب واليهود. فالحركة القومية العربية في فلسطين لا يمكن فصلها عن الحركات القومية العربية في العالم العربي التي امتازت بتشديد الكفاح ضد الإمبريالية. ومعروف تماما أن براكين الثورات المعادية للإمبريالية تفجرت في هذه الفترة بعنف شديد زعزع مواقع الإمبريالية، وتوالت الثورات فوقعت ثورة 1919 في مصر. وثورة العراق الشاملة في عام 1920 والنضال المسلح الذي بدا في سوريا من قبل أن تحتل القوات الفرنسية دمشق في تموز (يوليو) 1920، واستمر بعد احتلالها فترة من الزمن.
وهكذا فالموجة الثورية في العالم العربي كان عامة ومنها تظاهرة القدس الكبرى. ولذلك فالاصطدام بين العرب واليهود الذي وقع في القدس كان لأسباب عديدة لا تمت إلى العنصرية بصلة ولا تشوه جوهر هذه الحركة بشيء .
وعلى هذا الضوء يمكن أن ننتقل إلى اصطدامات العرب واليهود في القدس يوم الأحد في 4 نيسان (ابريل) عام 1920.
يكتب المؤرخون الصهيونيون وقد تلقوا "العلم" على يدي معلم الرجعية الواحد أن المحرضين العرب أعدوا مجزرة اليهود في موسم النبي موسى بوحي من السلطات البريطانية أو بعض المحافل فيها ويستشهدون على ذلك بأن الذين هاجموا اليهود في القدس القديمة كانوا يصرخون "الحكومة معنا"!!.
ويؤيدهم في هذا الكتاب البريطانيون الذين يدافعون عن وعد بلفور والسياسة البريطانية التي انتهجها الانتداب البريطاني في فلسطين.
ولكن المعطيات ترسم صورة أخرى.
ففي ظروف الموجة القومية الثورية في العالم العربي المشرقي، وخاصة في سوريا حيث كان الحكم العربي (الفيصلي) لا يزال قائما، وحيث كانت القوى القومية تصارع الزحف الفرنسي، تحول موسم النبي موسى إلى مظاهرة قومية من الدرجة الأولى، فالوفود الكبيرة التي توافدت إلى المقام من مدينة القدس وقراها والخليل ونابلس وغيرها كانت "تنادي بالوحدة العربية والاستقلال وترفض الهجرة الصهيونية" واشتد حماسها الوطني وهي تصغي إلى خطابات القوميين أمثال عارف العارف وخليل بيدس وموسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس آنذاك.وكانت اللجنة الصهيونية التي وصلت إلى البلاد حتى قبل إتمام احتلال البريطانيين البلاد تعرب عن مطامعها في السيطرة على البلاد وتتجاهل حقوق الجماهير العربية تجاهلا تاما مما زاد في مخاوف هذه الجماهير من مدلولات وعد بلفور.
كذلك ظهرت الممارسة الصهيونية المعادية للجماهير العربية في مظاهر عدة أبرزها الاعدادات العسكرية بذريعة إقامة فرقة دفاع عن النفس.
ويعترف جوزيف شختمان في كتابة "متمرد وسياسي": "قضية فلاديمير جابو تنسكي" بهذا الأمر وبالتساوق بين القيادة الصهيونية والإمبريالية البريطانية مما يدحض أسطورة هتاف الجماهير العربية: "الحكومة معنا..".
كتب أن أمر تدريب الجنود اليهود كان علينا تعرفه السلطات، وأضاف:
"وقبل أيام من العيد الإسلامي النبي موسى قامت فرقة الدفاع عن النفس بمناورات عسكرية منظمة على سفح جبل الزيتون وعند أقدامه أمام مركز الحكومة (البريطانية) "واستعرض" الضباط البريطانيون حركتنا بمناظيرهم.. ولم يكن الموقف الرسمي تجاه منظمة الدفاع الذاتي غير سلبي فحسب، بل كان يبدو أبويا إلى حد" (ص325).
وهكذا فبعض قادة الصهيونية من أمثال الزعيم المتطرف جابوتنسكي كانوا يعدون قوة عسكرية ويقومون بمناورات عسكرية منظمة عشية موسم النبي موسى مما ينفي صورة الحمل الوديع "اليهود والذئب الكاسر "العرب".
ولا جدول في أن أساطين الإمبريالية البريطانية العريقين بسياسة "فرق تسد" بذلوا كل جهد لتأجيج الاحتراب العنصري بين العرب واليهود لحرف النضال عن مساربه الصحيحة ليصبحوا قضاة بين متحاربين بدلا من أن يكونوا هدف المحاربين من أجل الاستقلال بوصفهم أعداء الشعوب الألداء وعقبة التحرر القومي الكأداء.
وحتى في هذا الوقت المبكر وجدت الإمبريالية البريطانية عناصر الرجعية العربية تسير في ركابها بعد أن حظيت بتأييد الصهيونية التام.
وساعد على ذلك بناء الحركة القومية العربية في فلسطين، في هذا الوقت، على أسس طائفية كانت تعرف عن الأوضاع الاقتصادية المتخلفة التي تميزت بعلاقات اقتصادية شبه إقطاعية وبغياب البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة.
كما أن المجتمع العثماني كان يقوم على التنظيم الطائفي (الملي) ولم يكن قد تغير بعد في عهد الاحتلال البريطاني.
وفي هذا الجو المتوتر كان من السهل أن يشتعل الاحتراب العنصري وأن يؤدي – كما كتب السفري- مرور بعض اليهود بين الشعب العربي الصاخب إلى اهتياج الأفكار "واحتدام نار الفتنة بين الطرفين فقتل منهما عدد ليس بالقليل وظلت الحالة مضطربة حتى المساء".
لقد كان حصيلة هذا الاصطدام بين العرب من ناحية، والقوات البريطانية واليهود من ناحية، مقتل 5 من اليهود و4 من العرب وجرح عشرات من الطرفين. ولكن الأخطر من وقوع الضحايا، اتساع الهوة بين العرب والصهيونيين، ونحدد الهوة بين العرب والصهيونيين لأن نسبة واسعة من اليهود في البلاد كانت ترفض المشروع الصهيوني في ذلك الوقت المبكر.
وعلى أثر هذا الاحتراب، وضعت لجنة تحقيق عسكرية، كانت الأولى من سلسلة لجان تحقيق مختلفة، تقريرا من ملابسات الاصطدام أكدت فيه ما يلي:
· "خيبة أمل العرب سبب عدم تنفيذ الوعود بالاستقلال التي يدعون أنها أعطيت لهم أيام الحرب.
· اعتقاد العرب بأن وعد بلفور ينفي حقهم في تقرير المصير وتخوفهم من أن يؤدي قيام الوطن القومي إلى زيادة الهجرة اليهودية، مما سيقود إلى إخضاعهم لسيطرة اليهود الاقتصادية والسياسية.
· تعميق هذه المشاعر بالدعاية من خارج البلاد المرتبطة بإعلان الملك فيصل ملكا على سوريا موحدة ونمو أفكار الجامعة العربية والجامعة الإسلامية من ناحية ونشاط اللجنة الصهيونية تدعمها مقدرات اليهود ونفوذها في شتى أنحاء العالم من الناحية الثانية".
(استعرض أوضاع فلسطين، تقرير أعدته الحكومة البريطانية للجنة التحقيق الانجلو- أمريكية بين 1945-1946 ص17).
لم تكن لجنة تحقيق نزيهة في كل ما ذهبت إليه، فالإمبراطورية البريطانية كانت تقصد بلجانها الموجهة تخدير الجماهير أولاً وكسب الوقت ثانيا والدس المغرض ثالثا. ومع هذا فقد اضطرت إلى الاعتراف بحقيقة كبرى: هي أن الجماهير العربية كانت تتوق إلى الاستقلال وترغب في حق تقرير المصير في سوريا الطبيعية وتتخوف، أشد الخوف، من الوطن القومي اليهودي.
وكان الانتداب غطاء الإمبريالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي شهدت قبل نهايتها ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى في روسيا القيصرية، وانتهت تبعاً لذلك وبتأثير هذه الثورة بنقاط الرئيس الأمريكي ويلسون التي عرفت التي عرفت بالنقاط الأربع عشرة وأوحت بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
واعترف الانتداب- وكان على درجات – مبدئياً بحق الشعوب بحكم نفسها بنفسها، ولكنه اعتبر تلك الشعوب قاصرة على ذلك آنذاك، وأوكل أمرها لدولة كبرى "تأخذ بيدها في مدارج الرقي"! حتى تقف على أقدامها وتستقل بأمورها، وعندئذ ينتهي نظام الانتداب.
وأوكل مجلس مؤتمر السلام الأعلى أمر الانتداب على فلسطين ببريطانيا أثناء اجتماعه في سان ريمو في 25 نيسان (ابريل) عام 1920. كما وزع الانتدابات الأخرى على الدولتين الإمبرياليتين بريطانيا وفرنسا.
وخلال هذه الفترة اشتد الصراع بين بريطانيا وفرنسا حول حدود فلسطين . وكما يقول فروس آدم أحد الأخصائيين البريطانيين في مؤتمر السلام استخدمت بريطانيا الحدود التي كان يزعم الصهيونيون أنها حدود فلسطين في مجابهتها فرنسا (فكرة الدولة الصهيونية بن هلبرن ص296). وبذلك وصلت إلى ذروة الاستفادة من وعد بلفور للفوز بحصة الأسد في سوريا، وفعلا استطاعت بريطانيا أن تقتطع لنفسها فلسطين وشرق الأردن.
وأقر مجلس عصبة الأمم نظام الانتداب على فلسطين في 24 تموز (يوليو) عام 1922، وكان ذلك الإجراء اعتراف بواقع الاحتلال البريطاني الذي بدا في نهاية الحرب العالمية الأولى.
أما المعركة في فلسطين فلم تنتظر إقرار الانتداب رسميا، بل بدأت قبله بكثير.
المعركة مع الإمبريالية واصطدامات بين العرب واليهود
ويقع بعض المؤرخين وبينهم مؤرخون عرب في "خطأ" تاريخي، مغرض في أكثر الأحيان، حين يبدأون بتدوين كفاح الشعب العربي في فلسطين بالاصطدامات بين العرب واليهود في نيسان (ابريل) عام 1920.
الحقيقة أن بداية المعركة كانت في رفض الحركة القومية العربية الموحدة في سوريا الطبيعية، الاحتلال ووعد بلفور ومطامع الصهيونية.
وتطورت المعركة مع الإمبريالية البريطانية حتى من قبل أن ينفصل "القطاع الفلسطيني" عن الحركة القومية العربية في سوريا الطبيعية ويتلاءم مع ظروف التجزئة الإمبريالية في العالم العربي المشرقي
ولعل بداية موجة عام 1920 كانت في تلك المظاهرة الضخمة التي اشترك فيها 40 ألف مواطن وطافت في القدس في 27 شباط (فبراير) 1920.
لقد أعقبت هذه المظاهرة، وكانت الأولى من نوعها في القدس، اجتماع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد بدعوة من حاكم البلاد البريطاني الجنرال بولز.
ففي هذا الاجتماع صرح الجنرال بأن مجلس الحلفاء قرر أن يدمج وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين في معاهدة الصلح مع تركيا، وأن بريطانيا قبلت الانتداب على البلاد، وأنها ستحافظ على الحريات الدينية وتسمح للمهاجرين بدخول البلاد قدر حاجتها إلى النمو.
وأضاف:" وتسيطر حكومة بريطانيا على المهاجرة ولا يخرج أصحاب الأملاك الحاليون عن أملاكهم ولا تنزع منهم ولا تمنح امتيازات اقتصادية لأفراد أو جماعات إذا كان منحها ضررا لغيرهم. فالحكم سيكون للحكومة البريطانية ولا يسمح بحال من الأحوال لأقلية أن تسيطر على الأكثرية من السكان".
وقبل المظاهرة تألفت جمعيات إسلامية- مسيحية في مدن فلسطين واتفقت على مذكرة أعلنت فيها: "إننا لا نتخلى عن مطالبنا المنحصرة في استقلال سوريا المتحدة من طوروس إلى رفح ونرفض الهجرة الصهيونية رفضنا باتا ونرفض فصل فلسطين عن سوريا... لأن فصل فلسطين عن سوريا يضر بمصالح البلاد الاقتصادية والعمرانية... وبمصالح الوطنيين القومية والمحلية".
وأضافت: أن الأراضي تكفي لأهلها الذين هم في ازدياد مستمر وستسبب الهجرة الشغب والثورة الدائمين.
وهكذا كانت المظاهرة احتجاجا على التجزئة الإمبريالية أولاً، والاحتلال الذي جرد الشعب من استقلاله ثانيا، وعلى وعد بلفور ثالثا.
وقد طاف المتظاهرون على قناصل الدول الأجنبية وسلموهم احتجاجات بهذه الروح.(فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونيةص37-38).
وهنا لابد من دحض تزييف الرجعيين من بريطانيين إمبرياليين وصهيونيين حاقدين، حقيقة الحركة القومية العربية في فلسطين وتصوريها، تصويرا عنصريا، (!)، بتضخيم الاصطدامات بين العرب واليهود. فالحركة القومية العربية في فلسطين لا يمكن فصلها عن الحركات القومية العربية في العالم العربي التي امتازت بتشديد الكفاح ضد الإمبريالية. ومعروف تماما أن براكين الثورات المعادية للإمبريالية تفجرت في هذه الفترة بعنف شديد زعزع مواقع الإمبريالية، وتوالت الثورات فوقعت ثورة 1919 في مصر. وثورة العراق الشاملة في عام 1920 والنضال المسلح الذي بدا في سوريا من قبل أن تحتل القوات الفرنسية دمشق في تموز (يوليو) 1920، واستمر بعد احتلالها فترة من الزمن.
وهكذا فالموجة الثورية في العالم العربي كان عامة ومنها تظاهرة القدس الكبرى. ولذلك فالاصطدام بين العرب واليهود الذي وقع في القدس كان لأسباب عديدة لا تمت إلى العنصرية بصلة ولا تشوه جوهر هذه الحركة بشيء .
وعلى هذا الضوء يمكن أن ننتقل إلى اصطدامات العرب واليهود في القدس يوم الأحد في 4 نيسان (ابريل) عام 1920.
يكتب المؤرخون الصهيونيون وقد تلقوا "العلم" على يدي معلم الرجعية الواحد أن المحرضين العرب أعدوا مجزرة اليهود في موسم النبي موسى بوحي من السلطات البريطانية أو بعض المحافل فيها ويستشهدون على ذلك بأن الذين هاجموا اليهود في القدس القديمة كانوا يصرخون "الحكومة معنا"!!.
ويؤيدهم في هذا الكتاب البريطانيون الذين يدافعون عن وعد بلفور والسياسة البريطانية التي انتهجها الانتداب البريطاني في فلسطين.
ولكن المعطيات ترسم صورة أخرى.
ففي ظروف الموجة القومية الثورية في العالم العربي المشرقي، وخاصة في سوريا حيث كان الحكم العربي (الفيصلي) لا يزال قائما، وحيث كانت القوى القومية تصارع الزحف الفرنسي، تحول موسم النبي موسى إلى مظاهرة قومية من الدرجة الأولى، فالوفود الكبيرة التي توافدت إلى المقام من مدينة القدس وقراها والخليل ونابلس وغيرها كانت "تنادي بالوحدة العربية والاستقلال وترفض الهجرة الصهيونية" واشتد حماسها الوطني وهي تصغي إلى خطابات القوميين أمثال عارف العارف وخليل بيدس وموسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس آنذاك.وكانت اللجنة الصهيونية التي وصلت إلى البلاد حتى قبل إتمام احتلال البريطانيين البلاد تعرب عن مطامعها في السيطرة على البلاد وتتجاهل حقوق الجماهير العربية تجاهلا تاما مما زاد في مخاوف هذه الجماهير من مدلولات وعد بلفور.
كذلك ظهرت الممارسة الصهيونية المعادية للجماهير العربية في مظاهر عدة أبرزها الاعدادات العسكرية بذريعة إقامة فرقة دفاع عن النفس.
ويعترف جوزيف شختمان في كتابة "متمرد وسياسي": "قضية فلاديمير جابو تنسكي" بهذا الأمر وبالتساوق بين القيادة الصهيونية والإمبريالية البريطانية مما يدحض أسطورة هتاف الجماهير العربية: "الحكومة معنا..".
كتب أن أمر تدريب الجنود اليهود كان علينا تعرفه السلطات، وأضاف:
"وقبل أيام من العيد الإسلامي النبي موسى قامت فرقة الدفاع عن النفس بمناورات عسكرية منظمة على سفح جبل الزيتون وعند أقدامه أمام مركز الحكومة (البريطانية) "واستعرض" الضباط البريطانيون حركتنا بمناظيرهم.. ولم يكن الموقف الرسمي تجاه منظمة الدفاع الذاتي غير سلبي فحسب، بل كان يبدو أبويا إلى حد" (ص325).
وهكذا فبعض قادة الصهيونية من أمثال الزعيم المتطرف جابوتنسكي كانوا يعدون قوة عسكرية ويقومون بمناورات عسكرية منظمة عشية موسم النبي موسى مما ينفي صورة الحمل الوديع "اليهود والذئب الكاسر "العرب".
ولا جدول في أن أساطين الإمبريالية البريطانية العريقين بسياسة "فرق تسد" بذلوا كل جهد لتأجيج الاحتراب العنصري بين العرب واليهود لحرف النضال عن مساربه الصحيحة ليصبحوا قضاة بين متحاربين بدلا من أن يكونوا هدف المحاربين من أجل الاستقلال بوصفهم أعداء الشعوب الألداء وعقبة التحرر القومي الكأداء.
وحتى في هذا الوقت المبكر وجدت الإمبريالية البريطانية عناصر الرجعية العربية تسير في ركابها بعد أن حظيت بتأييد الصهيونية التام.
وساعد على ذلك بناء الحركة القومية العربية في فلسطين، في هذا الوقت، على أسس طائفية كانت تعرف عن الأوضاع الاقتصادية المتخلفة التي تميزت بعلاقات اقتصادية شبه إقطاعية وبغياب البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة.
كما أن المجتمع العثماني كان يقوم على التنظيم الطائفي (الملي) ولم يكن قد تغير بعد في عهد الاحتلال البريطاني.
وفي هذا الجو المتوتر كان من السهل أن يشتعل الاحتراب العنصري وأن يؤدي – كما كتب السفري- مرور بعض اليهود بين الشعب العربي الصاخب إلى اهتياج الأفكار "واحتدام نار الفتنة بين الطرفين فقتل منهما عدد ليس بالقليل وظلت الحالة مضطربة حتى المساء".
لقد كان حصيلة هذا الاصطدام بين العرب من ناحية، والقوات البريطانية واليهود من ناحية، مقتل 5 من اليهود و4 من العرب وجرح عشرات من الطرفين. ولكن الأخطر من وقوع الضحايا، اتساع الهوة بين العرب والصهيونيين، ونحدد الهوة بين العرب والصهيونيين لأن نسبة واسعة من اليهود في البلاد كانت ترفض المشروع الصهيوني في ذلك الوقت المبكر.
وعلى أثر هذا الاحتراب، وضعت لجنة تحقيق عسكرية، كانت الأولى من سلسلة لجان تحقيق مختلفة، تقريرا من ملابسات الاصطدام أكدت فيه ما يلي:
· "خيبة أمل العرب سبب عدم تنفيذ الوعود بالاستقلال التي يدعون أنها أعطيت لهم أيام الحرب.
· اعتقاد العرب بأن وعد بلفور ينفي حقهم في تقرير المصير وتخوفهم من أن يؤدي قيام الوطن القومي إلى زيادة الهجرة اليهودية، مما سيقود إلى إخضاعهم لسيطرة اليهود الاقتصادية والسياسية.
· تعميق هذه المشاعر بالدعاية من خارج البلاد المرتبطة بإعلان الملك فيصل ملكا على سوريا موحدة ونمو أفكار الجامعة العربية والجامعة الإسلامية من ناحية ونشاط اللجنة الصهيونية تدعمها مقدرات اليهود ونفوذها في شتى أنحاء العالم من الناحية الثانية".
(استعرض أوضاع فلسطين، تقرير أعدته الحكومة البريطانية للجنة التحقيق الانجلو- أمريكية بين 1945-1946 ص17).
لم تكن لجنة تحقيق نزيهة في كل ما ذهبت إليه، فالإمبراطورية البريطانية كانت تقصد بلجانها الموجهة تخدير الجماهير أولاً وكسب الوقت ثانيا والدس المغرض ثالثا. ومع هذا فقد اضطرت إلى الاعتراف بحقيقة كبرى: هي أن الجماهير العربية كانت تتوق إلى الاستقلال وترغب في حق تقرير المصير في سوريا الطبيعية وتتخوف، أشد الخوف، من الوطن القومي اليهودي.