إسرائيل من الاستعمار إلى الاستيطان *
تحت عنوان "الخطأ والسذاجة والتلون" كتب عضو الكنيست الإسرائيلي السابق يشعياهو بن فورت في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية بتاريخ 14-7-1972:
"إن الحقيقة هي لا صهيونية بدون استيطان، ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب ومصادرة أراضي وتسييجها"(1).
تماما فالاستيطان الإسرائيلي هو التطبيق العملي للفكر الإستراتيجي الصهيوني الذي انتهج فلسفة أساسها الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، بعد طرد سكانها الفلسطينيين بشتى الوسائل بحجج ودعاوى دينية وتاريخية باطلة، وترويج مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وجلب أعدادا، كبيرة من شتات اليهود من مختلف أنحاء العالم، وإحلالهم بدلا من العرب الفلسطينيين، بهدف إقامة دولة على المنطقة العربية، لما تلعبه فلسطين من أهمية إستراتيجية في هذه البقعة من العالم.
التطور التاريخي لفكرة الاستيطان
لقد بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين، تلوح في الأفق، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوربا، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي الجديد ترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءا من النسيج الحضاري الغربي، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليـهم من الواجـبات، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه(2)، وكانت أولى الدعوات لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي أوليغـربـولي Oliger poulli عام 1695 الذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين، وقام بتسليمها إلى ملوك أوربا في ذلك الوقت(3)، وفي عام 1799 كان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول زعيم دولة يقترح إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا(4).
في القرن التاسع عشر، اشتدت حملة الدعوات للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وانطلقت هذه الدعوات من أوربا مستغلة المناخ السياسي السائد حول الأطماع الاستعمارية الأوربية في تقسيم ممتلكات الرجل المريض "الدولة العثمانية" والتي عرفت حينئذ بالمسألة الشرقية، وقد تولى أمر هذه الدعوات عدد من زعماء اليهود وغيرهم، أمثال اللورد شاتسبوري shattesboury الذي دعا إلى حل المسالة الشرقيـة عن طريق استعمـار اليهـود لفلسطيـن(5)، بدعم من الدول العظمى ساعده في ذلك اللورد بالمرستون "1856-1784" palmerston الذي شغل عدة مناصب، منها وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس مجلس وزرائها حيث قام بتعيين أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838 وتكليفه بمنح الحماية الرسمية لليهود في فلسطين، كما طلب من السفير البريطاني في القسطنطينية بالتدخل لدى السلطان العثماني للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين(6).
وبعد ظهور الحركة الصهيونية كحركة سياسية عملية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سعت هذه الحركة إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وكان من أبرز نشطائها لورنس أوليفانت ( (lourence oliphent 1888-1820 الذي كان عضوا في البرلمان الإنجليزي، وعمل أيضا في السلك الدبلوماسي الإنجليزي، اعتقد بضرورة تخليص اليهود من الحضارة الغربية بتوطينهم في فلسطين، وذلك بإدخالهم كعنصر لإنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها الاقتصادية، لما يتمتع به اليهود من ذكاء في الأعمال التجارية ومقدرة على جمع الأموال، ومن أجل ذلك قام في عام 1880م بنشر كتاب بعنوان أرض جلعاد اقترح فيه إنشاء مستوطنة يهودية شرقي الأردن شمال البحر الميت، لتكون تحت السيادة العثمانية بحماية بريطانية، وكذلك شجع استعمار اليهود في فلسطين والمناطق المجاورة عن طريق إقامة مستعمرات جديدة ومساعدة القائم منها(7).
وبالإضافة إلى أوليفانت حاول العديد من زعماء اليهود في القرن التاسع عشر القيام بمشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، ومن بين هؤلاء مونتفيوري (1784-1885) الذي حاول استئجار 200 قرية في الجليل لمدة 50 عاما مقابل 10%-20% من إنتاجها، إلا أن هذه المحاولة فشلت أمام رفض الحكم المصري لبلاد الشام آنذاك، ثم نجح في الحصول على موافقة السلطان العثماني بشراء عدد من قطع الأراضي بالقرب من القدس ويافا، وأسكن فيها مجموعة من العائلات اليهودية إلا أن هذه الخطوة أخفقت أيضا تحت تحفظ السلطات العثمانية لمشاريع الاستيطان في فلسطين، كما بذل وليم هشلر جهودا في جمع تبرعات مادية وإرسالها إلى الجمعيات الصهيونية لتشجيع الاستيطان في فلسطين تحت الحماية البريطانية(.
وقام الاتحاد الإسرائيلي العالمي (الأليانس) الذي تأسس عام 1860 باستئجار 2600 دونم لمدة 99 عاما، أقيمت عليها مدرسة زراعية بدعم من البارون روتشيلد لتدريب اليهود المهاجرين على الزراعة.
إسرائيل: الخديعة هي الأصل في تحقيق أهدافنا
في إطار الخديعة الاستعمارية قامت مجموعة من اليهود في عام 1887 بشراء 3375 دونما من أراضي قرية ملبس وتم تسجيلها باسم النمساوي سلومون، واستمرت المحاولات اليهودية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية حتى عام 1881 الذي يعتبره المؤرخ اليهودي والترلاكور بداية التاريخ الرسمي للاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن وصل حوالي 3000 يهودي من أوربا الشرقية، تمكنوا من إنشاء عدد من المستوطنات في الفترة من 1882-1884(9) وتوالت فيما بعد عمليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بشتى الوسائل منها الشراء أو الاستئجار لمدة طويلة، وقد لعبت المؤسسات اليهودية التي أنشئت لهذا الغرض دورا مؤثرا، ومن بينها:
منظمة بيكا التي أسسها روتشيلد، والوكالة اليهودية التي انبثقت من المؤتمر الصهيوني العالمي الأول عام 1897، والصندوق القومي اليهودي "الكيرن كايمت" وصندوق التأسيس اليهودي"الكيرن هايسود" والشركة الإنجليزية الفلسطينية.
ونشطت هذه المؤسسات بعد الحرب العالمية الأولى خصوصا بعد تمكن المنظمة الصهيونية العالمية من استصدار وعد بلفور الشهير عام 1917 الذي يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، حيث لعبت حكومة الانتداب دورا كبيرا في تمكين اليهود من السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية وذلك باتخاذها العديد من الإجراءات، منها فتح الأراضي الأميرية وجعلها أراضي ملكية وسن قانون أملاك الغائبين.
تمكن اليهود بفضل هذه الإجراءات استملاك 2070000 دونم بعد قيـام دولة إسرائيل 1948م (10) وقد حرصت هذه المؤسسات على أن تكون هذه الأراضي في مناطق متباعدة من أجل توسيع رقعة الدولة اليهودية.
ولم تظهر المستوطنات بشكل منتظم خلال القرن التاسع عشر إلا في عام 1878، عندما تمكن مجموعة من يهود القدس من تأسيس مستوطنة بتاح تكفا، وفي عام 1882 تم إنشاء ثلاث مستوطنات(11)، هي مستوطنة ريشون ليتسيون، وزخرون يعقوب، وروش يبنا، ثم مستوطنتي يسود همعليه وعفرون عام 1883، ومستوطنة جديرا عام 1884، وفي عام 1890 أقيمت مستوطنات رحوبوت، ومشمار هيارون، وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الثاني عام 1898 أقر قانون المنظمة الصهيونية العالمية التي أخذت على عاتقها كافة الشؤون المتعلقة بالاستيطان بعد أن وصل عدد المستوطنات الإسرائيلية الزراعية إلى 22 مستوطنة، سيطرت على 200 ألف دونم ارتفعت إلى 418 ألف دونم بعد الحرب العالمية الأولى، بعد هذا التاريخ انطلقت مرحلة جديدة من مراحل الاستيطان اليهودي في فلسطين، حيث عملت المؤتمرات الصهيونية العالمية بدءًا من المؤتمر الأول على تنفيذ برامجها التي تمحورت حول برنامج المؤتمر الأول عام 1897 ويدعو هذا البرنامج إلى(12):
- العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود وفق أسس مناسبة.
- تغذية وتقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي.
- اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
لقد كانت السيطرة على الأرض الفلسطينية القائمة على الكذب والخداع هي جوهر الفلسفة التي انتهجتها الصهيونية العالمية منذ نشوء الفكرة الأولى لتوطين اليهود في فلسطين وتابعتها إسرائيل بعد قيامها حتى الآن، وقد رافق عمليات الاستيلاء على الأراضي عملية تغيير ديموغرافي، ففي جميع حالات الاستيلاء كانت تجلب أعدادًا من اليهود من مختلف أنحاء العالم، ليحلوا مكان السكان العرب الفلسطينيين، فقد تعرضت الأراضي الفلسطينية لخمس موجات متتالية من الهجرات اليهودية(13)، وذلك في أعقاب الأزمات السياسية المتعاقبة والتي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية وذلك في المناطق التي تواجد فيها اليهود.
هجرات الاستعمار اليهودي لفلسطين
وقد حدثت موجات عديدة لتهجير اليهود من كل أنحاء العالم لاستعمار فلسطين، وقد كان ذلك في شكل موجات بشرية كالتالي:
الموجة الأولى ما بين عامي 1882-1903، إذ هاجر نحو 10 آلاف يهودي من روسيا في أعقاب حادثة اغتيال قيصر روسيا وما تبعتها من عمليات اضطهاد لليهود هناك وبين عامي 1904-1918.
الموجه الثانية وصل عدد المهاجرين إلى 85 ألف مهاجر.
الموجة الثالثة ما بين عامي 1919-1923 بعد حدوث الثورة البلشفية في روسيا، وبلغ عدد المهاجرين في هذه الموجة نحو 35 ألف مهاجر.
الموجة الرابعة ما بين عام 1924-1932، حيث هاجر نحو 62 ألف مهاجر بسبب قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسن قوانين حدت من الهجرة إليها.
الموجة الخامسة فكانت بين عامي 1933-1938، حيث بلغ عدد المهاجرين في هذه المرحلة حوالي 164000 مستعمر، وإلى جانب هذه الموجات كانت هناك هجرات سرية قام بها اليهود الشرقيون (السفارديم) من جهات مختلفة من اليمن والحبشة وأفريقيا الشمالية وتركيا وإيران وذلك في فترة الأربعينيات، وذلك بسبب قيام سلطات الانتداب البريطاني بفرض قيود على الهجرة اليهودية تقربا للعرب للوقوف بجانبها في الحرب العالمية الثانية. وقد بلغت حصيلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى عام 1948 حوالي 650 ألف مهاجر يهودي، وبعد قيام دولة إسرائيل قامت بتشجيع الهجرة اليهودية وذلك بسن العديد من القوانين مثل قانون العودة عام 1950، وقانون الجنسية الإسرائيلي عام 1952، فازداد عدد المهاجرين، حيث وصل في الفترة من 1948-1967 إلى 12.0075 مهاجرا(14).
مما سبق يتضح لنا أن الاستيطان اليهودي قد مر بأربع مراحل، ونحن نضيف أننا نمر بالمرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل الاستيطان(15).
بروز النشاط الاستعماري لليهود في فلسطين
لقد كان لليهود بمساعدة القوى الاستعمارية الكبرى دور كبير في استعمار فلسطين، وقد كان ذلك على عدة مراحل قامت بها شخصيات كان لها دور فعال في الحركة الصهيونية ومن ثم في تأسيس دولة الكيان الإسرائيلي، وقد حدث كل ذلك على عدة مراحل هي كالتالي:
فالمرحلة الأولى: بدأت منذ انعقاد مؤتمر لندن عام 1840 بعد هزيمة محمد علي، واستمرت حتى عام 1882، وكانت هذه المرحلة البدايات الأولى للنشاط الاستيطاني اليهودي، إلا أن مشاريع هذه المرحلة لم تلق النجاح المطلوب بسبب عزوف اليهود أنفسهم عن الهجرة إلى فلسطين، والتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو الانخراط في مجتمعاتهم، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة اللورد شافتسبوري، واللورد بالمرستون، ومونتفيوري.
المرحلة الثانية: بدأت عام 1882 واستمرت حتى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، وفي هذه المرحلة بدأ الاستيطان الفعلي في فلسطين، وشهدت الموجات الأولى والثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين خصوصا من أوربا الشرقية وروسيا، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة لورنس أوليفانت، وروتشليد، وهرتزل، وفي هذه المرحلة بدأت المؤتمرات الصهيونية العالمية وأسست المنظمة الصهيونية العالمية.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي هذه المرحلة تم تكثيف عمليات استملاك اليهود للأراضي الفلسطينية، وتدفق الهجرة اليهودية، حيث شهدت هذه المرحلة الموجات الثالثة والرابعة والخامسة.
المرحلة الرابعة: وبدأت منذ إعلان قيام دولة إسرائيل وحتى عام 1967، وفيها تمكنت إسرائيل من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوافد المهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم.
لقد تكللت جهود الصهيونية ومن ورائها القوى الاستعمارية بالنجاح عندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948 على 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وتمكنت إسرائيل من طرد معظم السكان الفلسطينيين بعد أن ارتكبت العديد من المذابح والمجازر وتدمير القرى والمدن الفلسطينية، وأصبح الفلسطينيون يعيشون مشردين لاجئين في البلاد العربية المجاورة في مخيمات بائسة، وما زالوا إلى الآن رغم صدور العديد من القرارات الدولية تقضي بضرورة عودتهم إلى أراضيهم، وفي المقابل فتحت أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها ليتدفق الكثير من اليهود من مختلف أنحاء العالم، واستمر هذا الوضع حتى حرب الخامس من حزيران عام 1967، والتي كانت من أهم نتائجها استكمال سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بعد احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وبذلك تكون فرصة جديدة سنحت لإسرائيل لمتابعة مخططات الصهيونية لتهويد فلسطين، والتي بدأت في القرن التاسع عشر، ونعتقد أنها بداية مرحلة خامسة من مراحل الاستيطان اليهودي في فلسطين وما زالت قائمة إلى يومنا هذا، كما نعتقد أنها المرحلة الأخيرة لأن إسرائيل أصبحت تحكم سيطرتها على كامل أراضي فلسطين التاريخية،
تحت عنوان "الخطأ والسذاجة والتلون" كتب عضو الكنيست الإسرائيلي السابق يشعياهو بن فورت في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية بتاريخ 14-7-1972:
"إن الحقيقة هي لا صهيونية بدون استيطان، ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب ومصادرة أراضي وتسييجها"(1).
تماما فالاستيطان الإسرائيلي هو التطبيق العملي للفكر الإستراتيجي الصهيوني الذي انتهج فلسفة أساسها الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، بعد طرد سكانها الفلسطينيين بشتى الوسائل بحجج ودعاوى دينية وتاريخية باطلة، وترويج مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وجلب أعدادا، كبيرة من شتات اليهود من مختلف أنحاء العالم، وإحلالهم بدلا من العرب الفلسطينيين، بهدف إقامة دولة على المنطقة العربية، لما تلعبه فلسطين من أهمية إستراتيجية في هذه البقعة من العالم.
التطور التاريخي لفكرة الاستيطان
لقد بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين، تلوح في الأفق، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوربا، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي الجديد ترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءا من النسيج الحضاري الغربي، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليـهم من الواجـبات، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه(2)، وكانت أولى الدعوات لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي أوليغـربـولي Oliger poulli عام 1695 الذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين، وقام بتسليمها إلى ملوك أوربا في ذلك الوقت(3)، وفي عام 1799 كان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول زعيم دولة يقترح إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا(4).
في القرن التاسع عشر، اشتدت حملة الدعوات للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وانطلقت هذه الدعوات من أوربا مستغلة المناخ السياسي السائد حول الأطماع الاستعمارية الأوربية في تقسيم ممتلكات الرجل المريض "الدولة العثمانية" والتي عرفت حينئذ بالمسألة الشرقية، وقد تولى أمر هذه الدعوات عدد من زعماء اليهود وغيرهم، أمثال اللورد شاتسبوري shattesboury الذي دعا إلى حل المسالة الشرقيـة عن طريق استعمـار اليهـود لفلسطيـن(5)، بدعم من الدول العظمى ساعده في ذلك اللورد بالمرستون "1856-1784" palmerston الذي شغل عدة مناصب، منها وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس مجلس وزرائها حيث قام بتعيين أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838 وتكليفه بمنح الحماية الرسمية لليهود في فلسطين، كما طلب من السفير البريطاني في القسطنطينية بالتدخل لدى السلطان العثماني للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين(6).
وبعد ظهور الحركة الصهيونية كحركة سياسية عملية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سعت هذه الحركة إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وكان من أبرز نشطائها لورنس أوليفانت ( (lourence oliphent 1888-1820 الذي كان عضوا في البرلمان الإنجليزي، وعمل أيضا في السلك الدبلوماسي الإنجليزي، اعتقد بضرورة تخليص اليهود من الحضارة الغربية بتوطينهم في فلسطين، وذلك بإدخالهم كعنصر لإنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها الاقتصادية، لما يتمتع به اليهود من ذكاء في الأعمال التجارية ومقدرة على جمع الأموال، ومن أجل ذلك قام في عام 1880م بنشر كتاب بعنوان أرض جلعاد اقترح فيه إنشاء مستوطنة يهودية شرقي الأردن شمال البحر الميت، لتكون تحت السيادة العثمانية بحماية بريطانية، وكذلك شجع استعمار اليهود في فلسطين والمناطق المجاورة عن طريق إقامة مستعمرات جديدة ومساعدة القائم منها(7).
وبالإضافة إلى أوليفانت حاول العديد من زعماء اليهود في القرن التاسع عشر القيام بمشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، ومن بين هؤلاء مونتفيوري (1784-1885) الذي حاول استئجار 200 قرية في الجليل لمدة 50 عاما مقابل 10%-20% من إنتاجها، إلا أن هذه المحاولة فشلت أمام رفض الحكم المصري لبلاد الشام آنذاك، ثم نجح في الحصول على موافقة السلطان العثماني بشراء عدد من قطع الأراضي بالقرب من القدس ويافا، وأسكن فيها مجموعة من العائلات اليهودية إلا أن هذه الخطوة أخفقت أيضا تحت تحفظ السلطات العثمانية لمشاريع الاستيطان في فلسطين، كما بذل وليم هشلر جهودا في جمع تبرعات مادية وإرسالها إلى الجمعيات الصهيونية لتشجيع الاستيطان في فلسطين تحت الحماية البريطانية(.
وقام الاتحاد الإسرائيلي العالمي (الأليانس) الذي تأسس عام 1860 باستئجار 2600 دونم لمدة 99 عاما، أقيمت عليها مدرسة زراعية بدعم من البارون روتشيلد لتدريب اليهود المهاجرين على الزراعة.
إسرائيل: الخديعة هي الأصل في تحقيق أهدافنا
في إطار الخديعة الاستعمارية قامت مجموعة من اليهود في عام 1887 بشراء 3375 دونما من أراضي قرية ملبس وتم تسجيلها باسم النمساوي سلومون، واستمرت المحاولات اليهودية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية حتى عام 1881 الذي يعتبره المؤرخ اليهودي والترلاكور بداية التاريخ الرسمي للاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن وصل حوالي 3000 يهودي من أوربا الشرقية، تمكنوا من إنشاء عدد من المستوطنات في الفترة من 1882-1884(9) وتوالت فيما بعد عمليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بشتى الوسائل منها الشراء أو الاستئجار لمدة طويلة، وقد لعبت المؤسسات اليهودية التي أنشئت لهذا الغرض دورا مؤثرا، ومن بينها:
منظمة بيكا التي أسسها روتشيلد، والوكالة اليهودية التي انبثقت من المؤتمر الصهيوني العالمي الأول عام 1897، والصندوق القومي اليهودي "الكيرن كايمت" وصندوق التأسيس اليهودي"الكيرن هايسود" والشركة الإنجليزية الفلسطينية.
ونشطت هذه المؤسسات بعد الحرب العالمية الأولى خصوصا بعد تمكن المنظمة الصهيونية العالمية من استصدار وعد بلفور الشهير عام 1917 الذي يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، حيث لعبت حكومة الانتداب دورا كبيرا في تمكين اليهود من السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية وذلك باتخاذها العديد من الإجراءات، منها فتح الأراضي الأميرية وجعلها أراضي ملكية وسن قانون أملاك الغائبين.
تمكن اليهود بفضل هذه الإجراءات استملاك 2070000 دونم بعد قيـام دولة إسرائيل 1948م (10) وقد حرصت هذه المؤسسات على أن تكون هذه الأراضي في مناطق متباعدة من أجل توسيع رقعة الدولة اليهودية.
ولم تظهر المستوطنات بشكل منتظم خلال القرن التاسع عشر إلا في عام 1878، عندما تمكن مجموعة من يهود القدس من تأسيس مستوطنة بتاح تكفا، وفي عام 1882 تم إنشاء ثلاث مستوطنات(11)، هي مستوطنة ريشون ليتسيون، وزخرون يعقوب، وروش يبنا، ثم مستوطنتي يسود همعليه وعفرون عام 1883، ومستوطنة جديرا عام 1884، وفي عام 1890 أقيمت مستوطنات رحوبوت، ومشمار هيارون، وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الثاني عام 1898 أقر قانون المنظمة الصهيونية العالمية التي أخذت على عاتقها كافة الشؤون المتعلقة بالاستيطان بعد أن وصل عدد المستوطنات الإسرائيلية الزراعية إلى 22 مستوطنة، سيطرت على 200 ألف دونم ارتفعت إلى 418 ألف دونم بعد الحرب العالمية الأولى، بعد هذا التاريخ انطلقت مرحلة جديدة من مراحل الاستيطان اليهودي في فلسطين، حيث عملت المؤتمرات الصهيونية العالمية بدءًا من المؤتمر الأول على تنفيذ برامجها التي تمحورت حول برنامج المؤتمر الأول عام 1897 ويدعو هذا البرنامج إلى(12):
- العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود وفق أسس مناسبة.
- تغذية وتقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي.
- اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
لقد كانت السيطرة على الأرض الفلسطينية القائمة على الكذب والخداع هي جوهر الفلسفة التي انتهجتها الصهيونية العالمية منذ نشوء الفكرة الأولى لتوطين اليهود في فلسطين وتابعتها إسرائيل بعد قيامها حتى الآن، وقد رافق عمليات الاستيلاء على الأراضي عملية تغيير ديموغرافي، ففي جميع حالات الاستيلاء كانت تجلب أعدادًا من اليهود من مختلف أنحاء العالم، ليحلوا مكان السكان العرب الفلسطينيين، فقد تعرضت الأراضي الفلسطينية لخمس موجات متتالية من الهجرات اليهودية(13)، وذلك في أعقاب الأزمات السياسية المتعاقبة والتي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية وذلك في المناطق التي تواجد فيها اليهود.
هجرات الاستعمار اليهودي لفلسطين
وقد حدثت موجات عديدة لتهجير اليهود من كل أنحاء العالم لاستعمار فلسطين، وقد كان ذلك في شكل موجات بشرية كالتالي:
الموجة الأولى ما بين عامي 1882-1903، إذ هاجر نحو 10 آلاف يهودي من روسيا في أعقاب حادثة اغتيال قيصر روسيا وما تبعتها من عمليات اضطهاد لليهود هناك وبين عامي 1904-1918.
الموجه الثانية وصل عدد المهاجرين إلى 85 ألف مهاجر.
الموجة الثالثة ما بين عامي 1919-1923 بعد حدوث الثورة البلشفية في روسيا، وبلغ عدد المهاجرين في هذه الموجة نحو 35 ألف مهاجر.
الموجة الرابعة ما بين عام 1924-1932، حيث هاجر نحو 62 ألف مهاجر بسبب قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسن قوانين حدت من الهجرة إليها.
الموجة الخامسة فكانت بين عامي 1933-1938، حيث بلغ عدد المهاجرين في هذه المرحلة حوالي 164000 مستعمر، وإلى جانب هذه الموجات كانت هناك هجرات سرية قام بها اليهود الشرقيون (السفارديم) من جهات مختلفة من اليمن والحبشة وأفريقيا الشمالية وتركيا وإيران وذلك في فترة الأربعينيات، وذلك بسبب قيام سلطات الانتداب البريطاني بفرض قيود على الهجرة اليهودية تقربا للعرب للوقوف بجانبها في الحرب العالمية الثانية. وقد بلغت حصيلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى عام 1948 حوالي 650 ألف مهاجر يهودي، وبعد قيام دولة إسرائيل قامت بتشجيع الهجرة اليهودية وذلك بسن العديد من القوانين مثل قانون العودة عام 1950، وقانون الجنسية الإسرائيلي عام 1952، فازداد عدد المهاجرين، حيث وصل في الفترة من 1948-1967 إلى 12.0075 مهاجرا(14).
مما سبق يتضح لنا أن الاستيطان اليهودي قد مر بأربع مراحل، ونحن نضيف أننا نمر بالمرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل الاستيطان(15).
بروز النشاط الاستعماري لليهود في فلسطين
لقد كان لليهود بمساعدة القوى الاستعمارية الكبرى دور كبير في استعمار فلسطين، وقد كان ذلك على عدة مراحل قامت بها شخصيات كان لها دور فعال في الحركة الصهيونية ومن ثم في تأسيس دولة الكيان الإسرائيلي، وقد حدث كل ذلك على عدة مراحل هي كالتالي:
فالمرحلة الأولى: بدأت منذ انعقاد مؤتمر لندن عام 1840 بعد هزيمة محمد علي، واستمرت حتى عام 1882، وكانت هذه المرحلة البدايات الأولى للنشاط الاستيطاني اليهودي، إلا أن مشاريع هذه المرحلة لم تلق النجاح المطلوب بسبب عزوف اليهود أنفسهم عن الهجرة إلى فلسطين، والتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو الانخراط في مجتمعاتهم، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة اللورد شافتسبوري، واللورد بالمرستون، ومونتفيوري.
المرحلة الثانية: بدأت عام 1882 واستمرت حتى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، وفي هذه المرحلة بدأ الاستيطان الفعلي في فلسطين، وشهدت الموجات الأولى والثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين خصوصا من أوربا الشرقية وروسيا، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة لورنس أوليفانت، وروتشليد، وهرتزل، وفي هذه المرحلة بدأت المؤتمرات الصهيونية العالمية وأسست المنظمة الصهيونية العالمية.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي هذه المرحلة تم تكثيف عمليات استملاك اليهود للأراضي الفلسطينية، وتدفق الهجرة اليهودية، حيث شهدت هذه المرحلة الموجات الثالثة والرابعة والخامسة.
المرحلة الرابعة: وبدأت منذ إعلان قيام دولة إسرائيل وحتى عام 1967، وفيها تمكنت إسرائيل من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوافد المهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم.
لقد تكللت جهود الصهيونية ومن ورائها القوى الاستعمارية بالنجاح عندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948 على 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وتمكنت إسرائيل من طرد معظم السكان الفلسطينيين بعد أن ارتكبت العديد من المذابح والمجازر وتدمير القرى والمدن الفلسطينية، وأصبح الفلسطينيون يعيشون مشردين لاجئين في البلاد العربية المجاورة في مخيمات بائسة، وما زالوا إلى الآن رغم صدور العديد من القرارات الدولية تقضي بضرورة عودتهم إلى أراضيهم، وفي المقابل فتحت أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها ليتدفق الكثير من اليهود من مختلف أنحاء العالم، واستمر هذا الوضع حتى حرب الخامس من حزيران عام 1967، والتي كانت من أهم نتائجها استكمال سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بعد احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وبذلك تكون فرصة جديدة سنحت لإسرائيل لمتابعة مخططات الصهيونية لتهويد فلسطين، والتي بدأت في القرن التاسع عشر، ونعتقد أنها بداية مرحلة خامسة من مراحل الاستيطان اليهودي في فلسطين وما زالت قائمة إلى يومنا هذا، كما نعتقد أنها المرحلة الأخيرة لأن إسرائيل أصبحت تحكم سيطرتها على كامل أراضي فلسطين التاريخية،