الحلقة الأولى
تعرضت القدس وفلسطين في مطلع القرن الرابع عشر الهجري للغزو الصهيوني. وبفعل هذا الغزو بدأ الوجود الصهيوني الاستعماري فيها وفي الوطن العربي. وقد مر هذا الغزو بمراحل متتالية على مدى قرن بطولة.
بدأ الغزو الصهيوني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وعاصر آخر موجة كبرى من موجات الاستعماري الأوروبي الحديث وقد شهدت سنة 1772 م قدوم أول موجة من موجات الهجرة اليهودية المنظمة من أوروبا الشرقية. ولذا فقد اعتبرها المؤرخون الصهاينة سنة البداية.
كانت فلسطين آنذاك تحت حكم الدولة العثمانية التي أطلقت عليها دول أوروبا الاستعمارية اسم الرجل المريض. وكانت فلسطين تقع ضمن ولايات الشام ويقطنها شعب فلسطين العربي الذي كان عدده آنذاك دون المليون نسمة. وكانت غالبية هذا الشعب تدين بالإسلام، وفيه من يدين بالمسيحية، وفيه أيضا حوالي اثنا عشر آلفا يدينون باليهودية. وقد تألف هؤلاء من يهود عرب فلسطينيين قطنوا منذ القدم ويهود أوروبيين قدموا إلى فلسطين منذ أوائل القرن التاسع عشر. وعاش هؤلاء جميعا في كنف التسامح الذي اتسم به العيش في الأراضي المقدسة إبان الحكم الإسلامي لها.
استمرت المرحلة الأولى من الغزو الصهيوني خمسا وثلاثين سنة حتى أواخر سنة 1917 م السنة التي احتلت فيها بريطانيا فلسطين ودخل اللورد اللنبي القدس. وخلال هذه المرحلة اصدر هرتزل الصهيوني كتاب "الدولة اليهودية" عام 1895. ودعا إلى عقد المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بال بسويسرا عام 1897م وبلور مخططات الحركة الصهيونية. وقد اخذ التهجير الصهيوني إلى فلسطين أثناء هذه المرحلة صورة التسلل لأن الدولة العثمانية لم تسمح به رسميا. واستغل الفساد الإداري في أجهزة الدولة للنفاذ وبلوغ أهدافه. ونشير هنا إلى محاولات هرتزل التي آجراها مع السلطان عبد الحميد الثاني من أجل أن يحصل على إذن منه بالتهجير و إقامة وطن قومي للصهيونية في فلسطين، وفشلت هذه المحاولات أمام موقف السلطان الداعي لابعاد الخطر الصهيوني، كما نشير هنا إلى تحركات هرتزل مع دول أوروبا الاستعمارية لبناء تحالف صهيوني استعماري معها. وقد انعقدت مؤتمرات صهيونية تالية في هذه المرحلة وشهدت نقاشا حول المكان الذي يمكن أن يقوم فيه الوطن القومي. واستقر الرأي على فلسطين العربية.
استطاعت الحركة الصهيونية أن تهجر في هذه المرحلة حوالي خمسين ألف يهودي كلهم من أوروبا الشرقية. ويطلق المؤرخون الصهاينة على مهاجري هذه الرحلة اسم "الرواد" تشبيها لهم بالمستعمرين البيض الأوائل لأمريكا. ومن هؤلاء المهاجرين دافيد بن غوريون الذي قدم مع موجة عام 1904 م. واستطاعت الحركة الصهيونية أن تستولي على حوالي 1% من أراضي فلسطين بشرائها بأساليب ملتوية من عائلات غير فلسطينية كانت تقيم خارج فلسطين. وبلورت الحركة الصهيونية في نهاية هذه المرحلة صلتها بالاستعمار العالمي فنقلت مركزها من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا وتحالفت مع الاستعمار البريطاني الطامع بالسيطرة على فلسطين والوطن العربي، ورسمت معه ومع الاستعمار الفرنسي خطوط الحدود التي قامت فيما بعد بين فلسطين وأجزاء بلاد الشام الأخرى لبنان وسوريا وشرق الأردن، وذلك في معاهدة سايكس-بيكو عام 1916م.
كانت الظروف الدولية مواتية لهذا الغزو الصهيوني. فقد بدأ بعد فترة قصيرة من انعقاد مؤتمر برلين سنة 1878. الذي جاء في أعقاب الحرب بين روسيا والدولة العثمانية وشهد حوار الدول الأوروبية حول اقتسام مناطق النفوذ في الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم غير الأوروبي عموما. وكانت أوروبا تعيش آنذاك ذروة نشاطها الاستعماري الذي اقترن بحدوث الثورة الصناعية فيها. وقد هيمنت على مقدرات أوطان وأمم في مختلف القارات. واشتد التنافس الاستعماري بين دول أوروبا في تلك الفترة. وواكبت بداية الغزو الصهيوني لفلسطين احتلال فرنسا لتونس عام 1881م واحتلال بريطانيا لمصر عام 1882 ثم للسودان عام 1896 وشهدت المرحلة الأولى من هذا الغزو الصهيوني الوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام 1904م الذي مهد لتحالف الدولتين في الحرب العالمية الأولى ولإبرام معاهدة سايكس-بيكو كما شهدت أيضا غزو إيطاليا لليبيا عام 1911م. وغزو فرنسا للمغرب عام 1912م. وكان الوطن العربي قد تعرض منذ عام 1830م. للموجة الأولى من موجات الاستعمار العربي حين احتلت فرنسا الجزائر في ذلك العام، واحتلت بريطانيا عدن عام 1839م. ثم زحفت منها إلى سواحل الخليج. كما كانت عدة أقطار إسلامية قد وقعت في قبضة الاستعمار الغربي.
قاوم شعب فلسطين الغزو الصهيوني منذ أن بدا وعمل على عرقلة تقدمه جهد استطاعته. وقام بواجبة في تنبيه الآمة العربية والعام الإسلامي لأخطار الصهيونية وقد روى بن غوريون في ذكرياته قصصا عن هذه المقاومة وكذلك فعلت الكتب الصهيونية التي أرخت لتلك الفترة. وحفظت سجلات مجلس المبعوثان خطب ممثلي شعب فلسطين التي أنذرت بأخطار التآمر الصهيوني الاستعماري كما حفظت الوثائق العثمانية عموما تاريخ مقاومة شعب فلسطين. وكانت فلسطين تشهد آنذاك مع بقية الأقطار العربية انتعاش حركة اليقظة فيها. وقد عملت هذه الحركة جاهدة منذ مطلع القرن الثالث عشر الهجري "القرن التاسع عشر الميلادي" لتحقيق التقدم دفع أخطار الاستعمار الأوروبي.
دخل الغزو الصهيوني لفلسطين مرحلة جديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. فقد صدر تصريح بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى الحركة الصهيونية بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وجسد التصريح الذي صدر يوم 6 تشرين الثاني "نوفمبر" من عام 1917 التحالف بين الحركة الصهيونية الاستعمارية وبين الاستعمار البريطاني. ومكن احتلال بريطانيا لفلسطين في كانون أول 1917م- أي بعد صدور التصريح وبعد تخليها عن التزاماتها تجاه العرب- الغزو الصهيوني من التغلغل في فلسطين. وجاءت اتفاقيات الصلح في فرساي أثر انتهاء الحرب لتقسم بلاد الشام والهلال الخصيب وتفرض الانتداب البريطاني على فلسطين. ألزمت بريطانيا نفسها في صك الانتداب بتهيئة الأوضاع في البلاد لاقامة الوطن القومي اليهودي فيها.
استطاع التحالف الصهيوني الاستعماري خلال السنوات التي عانت فلسطين فيها من الانتداب البريطاني أن يهجر مئات الألوف من يهود أوروبا إلى فلسطين العربية خصوصا في الثلاثينيات التي شهدت ظهور النازية في ألمانيا. كما استطاع هذا التحالف أن يغتصب حوالي ( 5.5 % ) من أراضي فلسطين الخصبة بأساليب التسلط المعلن والترهيب الاستعماري. وهكذا ارتفع عدد اليهود في فلسطين من حوالي ( 65000 ) كانوا في بداية الاحتلال البريطاني إلى حوالي ( 650.000 ) في نهايته عام 1947 بينما بلغ عدد شعب فلسطين آنذاك مليونا ونصف.
كان الاستعمار الأوروبي قد أكمل سيطرته على غالبية أجزاء الوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وغالبية أجزاء العام الاسلامي. واشتدت مقاومة العرب ومقاومة الشعوب الإسلامية لهذا الاستعمار في جميع هذه الأجزاء، ومنها فلسطين التي شهدت انتفاضات وثورات على مدى العشرينات والثلاثينات بلغت ذروتها عام 1946 وحتى عام 1939. وفرضت هذه المقاومة على بريطانيا نوعا من التراجع اكثر من مرة ثم نشبت الحرب العالمية الثانية فطرحت معطيات جديدة على الصعيد الدولي. وتكيفت الحركة الصهيونية مع هذه المعطيات فنقلت مركز ثقلها إلى الولايات المتحدة التي برزت خلال الحرب العالمية وبعدها زعيمة للغرب.
وقد طرحت خلال هذه المرحلة ومنذ عام 1937 فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. وصدر عن الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني "نوفمبر" 1947م، قرار التقسيم وسط ضغوط التحالف الاستعماري الصهيوني، فأعطى هذا القرار للدولة اليهودية أضعاف المساحة التي اغتصبتها الحركة الصهيونية من أرض فلسطين واكثر من نصف مساحة البلاد الكلية. ويلفت النظر بأن كل المهاجرين اليهود حتى نهاية هذه المرحلة كانوا من يهود أوروبا، الآمر الذي ينسجم مع حقيقة أن الغزو الصهيوني في نشأته هو غزو استعماري استيطاني أوروبي. ويلفت النظر أيضا قيام المستوطنين الصهاينة بعد إصدار بريطانيا للكتاب الأبيض عام 1939م بعمليات ضد سلطة الانتداب نظمتها بعض منظماتهم الإرهابية. وقد أطلقوا على هذه العمليات اسم حرب الاستقلال ووصفوها بأنها حركة تحرير ليركبوا موجة التحرير التي عمت منذ الحرب العالمية الثانية قارتي آسيا وأفريقيا، وليصطنعوا تاريخا يغطي حقيقة التحالف الصهيوني مع الاستعمار البريطاني وكان هذا الكتاب الأبيض قد نص على تحديد الهجرة اليهودية لفلسطين في أعقاب شعب فلسطين.
دخلت الغزوة الصهيونية مرحلة التغلغل هذه مع انتهاء الحرب العالمية الأولى في وقت اشتد تكالب أوروبا فيه على الاستعمار. ولكن الحرب غيرت في صورة القارة الأوروبية ومهدت لظهور المذاهب الجمعية فيها، وفرضت إعلان مبادئ حق تقرير المصير والسلام. وقد انعقد مؤتمر فرساي عام 1919م في أعقاب الحرب فجاءت قراراته ضربة موجعة لتلك المبادئ. وشهد المؤتمر حوار دول الغرب حول اقتسام مناطق النفوذ والمستعمرات تحت اسم الانتداب أو الوصاية. وهكذا مكن الانتداب البريطاني الغزوة الصهيونية من التغلغل في فلسطين، وتقاسمت بريطانيا مع فرنسا حكم غالبية أجزاء الوطن العربي بعد تجزئته. وكانت أوروبا في هذه المرحلة ما تزال تهيمن على مقدرات القارات الأخرى، وان برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة كبيرة إلى جانبها. وقد تعاظمت مقاومة الشعوب المستعمرة للاستعمار في تلك الفترة. وكان من أمثلتها البارزة نضال شعب فلسطين العربي ونضال الشعوب العربية في بقية الوطن العربي. وظهرت أزمة القيم التي تعانيها الدول المستعمرة. وانعكست على تجربة عصبة الأمم. وهكذا تفجرت الحرب العالمية الثانية بعد عقدين من مؤتمر فرساي. ونلاحظ أن الغزوة الصهيونية استغلت هذا المناخ الدولي و أثرة على السياسة الأوروبية لتتغلغل في فلسطين، والتقت مع النازية في اصطناع حملات الاضطهاد ضد اليهود في أوطانهم لبلوغ أهدافها في تهجيرهم. ونلاحظ أيضا أن النضال العربي دخل مرحلة جديدة في هذه الفترة، فبرز النضال الوطني الذي فرضه واقع تجزئة الاستعمار للوطن العربي، ويمكننا أن نرى بالنظرة الشاملة لحركات هذا النضال الوطني في مختلف الأقطار العربية أن كان متأثرا بحقيقة ترابط الآمة العربية. وهكذا كانت الحركات تتجاوب عن بعد رغم التجزئة، ولقد نجح النضال العربي في أن يطرد الاستعمار من بعض هذه الأجزاء. وظهرت بوضوح موجة التحرير في الوطن العربي اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تعرضت القدس وفلسطين في مطلع القرن الرابع عشر الهجري للغزو الصهيوني. وبفعل هذا الغزو بدأ الوجود الصهيوني الاستعماري فيها وفي الوطن العربي. وقد مر هذا الغزو بمراحل متتالية على مدى قرن بطولة.
بدأ الغزو الصهيوني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وعاصر آخر موجة كبرى من موجات الاستعماري الأوروبي الحديث وقد شهدت سنة 1772 م قدوم أول موجة من موجات الهجرة اليهودية المنظمة من أوروبا الشرقية. ولذا فقد اعتبرها المؤرخون الصهاينة سنة البداية.
كانت فلسطين آنذاك تحت حكم الدولة العثمانية التي أطلقت عليها دول أوروبا الاستعمارية اسم الرجل المريض. وكانت فلسطين تقع ضمن ولايات الشام ويقطنها شعب فلسطين العربي الذي كان عدده آنذاك دون المليون نسمة. وكانت غالبية هذا الشعب تدين بالإسلام، وفيه من يدين بالمسيحية، وفيه أيضا حوالي اثنا عشر آلفا يدينون باليهودية. وقد تألف هؤلاء من يهود عرب فلسطينيين قطنوا منذ القدم ويهود أوروبيين قدموا إلى فلسطين منذ أوائل القرن التاسع عشر. وعاش هؤلاء جميعا في كنف التسامح الذي اتسم به العيش في الأراضي المقدسة إبان الحكم الإسلامي لها.
استمرت المرحلة الأولى من الغزو الصهيوني خمسا وثلاثين سنة حتى أواخر سنة 1917 م السنة التي احتلت فيها بريطانيا فلسطين ودخل اللورد اللنبي القدس. وخلال هذه المرحلة اصدر هرتزل الصهيوني كتاب "الدولة اليهودية" عام 1895. ودعا إلى عقد المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بال بسويسرا عام 1897م وبلور مخططات الحركة الصهيونية. وقد اخذ التهجير الصهيوني إلى فلسطين أثناء هذه المرحلة صورة التسلل لأن الدولة العثمانية لم تسمح به رسميا. واستغل الفساد الإداري في أجهزة الدولة للنفاذ وبلوغ أهدافه. ونشير هنا إلى محاولات هرتزل التي آجراها مع السلطان عبد الحميد الثاني من أجل أن يحصل على إذن منه بالتهجير و إقامة وطن قومي للصهيونية في فلسطين، وفشلت هذه المحاولات أمام موقف السلطان الداعي لابعاد الخطر الصهيوني، كما نشير هنا إلى تحركات هرتزل مع دول أوروبا الاستعمارية لبناء تحالف صهيوني استعماري معها. وقد انعقدت مؤتمرات صهيونية تالية في هذه المرحلة وشهدت نقاشا حول المكان الذي يمكن أن يقوم فيه الوطن القومي. واستقر الرأي على فلسطين العربية.
استطاعت الحركة الصهيونية أن تهجر في هذه المرحلة حوالي خمسين ألف يهودي كلهم من أوروبا الشرقية. ويطلق المؤرخون الصهاينة على مهاجري هذه الرحلة اسم "الرواد" تشبيها لهم بالمستعمرين البيض الأوائل لأمريكا. ومن هؤلاء المهاجرين دافيد بن غوريون الذي قدم مع موجة عام 1904 م. واستطاعت الحركة الصهيونية أن تستولي على حوالي 1% من أراضي فلسطين بشرائها بأساليب ملتوية من عائلات غير فلسطينية كانت تقيم خارج فلسطين. وبلورت الحركة الصهيونية في نهاية هذه المرحلة صلتها بالاستعمار العالمي فنقلت مركزها من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا وتحالفت مع الاستعمار البريطاني الطامع بالسيطرة على فلسطين والوطن العربي، ورسمت معه ومع الاستعمار الفرنسي خطوط الحدود التي قامت فيما بعد بين فلسطين وأجزاء بلاد الشام الأخرى لبنان وسوريا وشرق الأردن، وذلك في معاهدة سايكس-بيكو عام 1916م.
كانت الظروف الدولية مواتية لهذا الغزو الصهيوني. فقد بدأ بعد فترة قصيرة من انعقاد مؤتمر برلين سنة 1878. الذي جاء في أعقاب الحرب بين روسيا والدولة العثمانية وشهد حوار الدول الأوروبية حول اقتسام مناطق النفوذ في الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم غير الأوروبي عموما. وكانت أوروبا تعيش آنذاك ذروة نشاطها الاستعماري الذي اقترن بحدوث الثورة الصناعية فيها. وقد هيمنت على مقدرات أوطان وأمم في مختلف القارات. واشتد التنافس الاستعماري بين دول أوروبا في تلك الفترة. وواكبت بداية الغزو الصهيوني لفلسطين احتلال فرنسا لتونس عام 1881م واحتلال بريطانيا لمصر عام 1882 ثم للسودان عام 1896 وشهدت المرحلة الأولى من هذا الغزو الصهيوني الوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام 1904م الذي مهد لتحالف الدولتين في الحرب العالمية الأولى ولإبرام معاهدة سايكس-بيكو كما شهدت أيضا غزو إيطاليا لليبيا عام 1911م. وغزو فرنسا للمغرب عام 1912م. وكان الوطن العربي قد تعرض منذ عام 1830م. للموجة الأولى من موجات الاستعمار العربي حين احتلت فرنسا الجزائر في ذلك العام، واحتلت بريطانيا عدن عام 1839م. ثم زحفت منها إلى سواحل الخليج. كما كانت عدة أقطار إسلامية قد وقعت في قبضة الاستعمار الغربي.
قاوم شعب فلسطين الغزو الصهيوني منذ أن بدا وعمل على عرقلة تقدمه جهد استطاعته. وقام بواجبة في تنبيه الآمة العربية والعام الإسلامي لأخطار الصهيونية وقد روى بن غوريون في ذكرياته قصصا عن هذه المقاومة وكذلك فعلت الكتب الصهيونية التي أرخت لتلك الفترة. وحفظت سجلات مجلس المبعوثان خطب ممثلي شعب فلسطين التي أنذرت بأخطار التآمر الصهيوني الاستعماري كما حفظت الوثائق العثمانية عموما تاريخ مقاومة شعب فلسطين. وكانت فلسطين تشهد آنذاك مع بقية الأقطار العربية انتعاش حركة اليقظة فيها. وقد عملت هذه الحركة جاهدة منذ مطلع القرن الثالث عشر الهجري "القرن التاسع عشر الميلادي" لتحقيق التقدم دفع أخطار الاستعمار الأوروبي.
دخل الغزو الصهيوني لفلسطين مرحلة جديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. فقد صدر تصريح بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى الحركة الصهيونية بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وجسد التصريح الذي صدر يوم 6 تشرين الثاني "نوفمبر" من عام 1917 التحالف بين الحركة الصهيونية الاستعمارية وبين الاستعمار البريطاني. ومكن احتلال بريطانيا لفلسطين في كانون أول 1917م- أي بعد صدور التصريح وبعد تخليها عن التزاماتها تجاه العرب- الغزو الصهيوني من التغلغل في فلسطين. وجاءت اتفاقيات الصلح في فرساي أثر انتهاء الحرب لتقسم بلاد الشام والهلال الخصيب وتفرض الانتداب البريطاني على فلسطين. ألزمت بريطانيا نفسها في صك الانتداب بتهيئة الأوضاع في البلاد لاقامة الوطن القومي اليهودي فيها.
استطاع التحالف الصهيوني الاستعماري خلال السنوات التي عانت فلسطين فيها من الانتداب البريطاني أن يهجر مئات الألوف من يهود أوروبا إلى فلسطين العربية خصوصا في الثلاثينيات التي شهدت ظهور النازية في ألمانيا. كما استطاع هذا التحالف أن يغتصب حوالي ( 5.5 % ) من أراضي فلسطين الخصبة بأساليب التسلط المعلن والترهيب الاستعماري. وهكذا ارتفع عدد اليهود في فلسطين من حوالي ( 65000 ) كانوا في بداية الاحتلال البريطاني إلى حوالي ( 650.000 ) في نهايته عام 1947 بينما بلغ عدد شعب فلسطين آنذاك مليونا ونصف.
كان الاستعمار الأوروبي قد أكمل سيطرته على غالبية أجزاء الوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وغالبية أجزاء العام الاسلامي. واشتدت مقاومة العرب ومقاومة الشعوب الإسلامية لهذا الاستعمار في جميع هذه الأجزاء، ومنها فلسطين التي شهدت انتفاضات وثورات على مدى العشرينات والثلاثينات بلغت ذروتها عام 1946 وحتى عام 1939. وفرضت هذه المقاومة على بريطانيا نوعا من التراجع اكثر من مرة ثم نشبت الحرب العالمية الثانية فطرحت معطيات جديدة على الصعيد الدولي. وتكيفت الحركة الصهيونية مع هذه المعطيات فنقلت مركز ثقلها إلى الولايات المتحدة التي برزت خلال الحرب العالمية وبعدها زعيمة للغرب.
وقد طرحت خلال هذه المرحلة ومنذ عام 1937 فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. وصدر عن الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني "نوفمبر" 1947م، قرار التقسيم وسط ضغوط التحالف الاستعماري الصهيوني، فأعطى هذا القرار للدولة اليهودية أضعاف المساحة التي اغتصبتها الحركة الصهيونية من أرض فلسطين واكثر من نصف مساحة البلاد الكلية. ويلفت النظر بأن كل المهاجرين اليهود حتى نهاية هذه المرحلة كانوا من يهود أوروبا، الآمر الذي ينسجم مع حقيقة أن الغزو الصهيوني في نشأته هو غزو استعماري استيطاني أوروبي. ويلفت النظر أيضا قيام المستوطنين الصهاينة بعد إصدار بريطانيا للكتاب الأبيض عام 1939م بعمليات ضد سلطة الانتداب نظمتها بعض منظماتهم الإرهابية. وقد أطلقوا على هذه العمليات اسم حرب الاستقلال ووصفوها بأنها حركة تحرير ليركبوا موجة التحرير التي عمت منذ الحرب العالمية الثانية قارتي آسيا وأفريقيا، وليصطنعوا تاريخا يغطي حقيقة التحالف الصهيوني مع الاستعمار البريطاني وكان هذا الكتاب الأبيض قد نص على تحديد الهجرة اليهودية لفلسطين في أعقاب شعب فلسطين.
دخلت الغزوة الصهيونية مرحلة التغلغل هذه مع انتهاء الحرب العالمية الأولى في وقت اشتد تكالب أوروبا فيه على الاستعمار. ولكن الحرب غيرت في صورة القارة الأوروبية ومهدت لظهور المذاهب الجمعية فيها، وفرضت إعلان مبادئ حق تقرير المصير والسلام. وقد انعقد مؤتمر فرساي عام 1919م في أعقاب الحرب فجاءت قراراته ضربة موجعة لتلك المبادئ. وشهد المؤتمر حوار دول الغرب حول اقتسام مناطق النفوذ والمستعمرات تحت اسم الانتداب أو الوصاية. وهكذا مكن الانتداب البريطاني الغزوة الصهيونية من التغلغل في فلسطين، وتقاسمت بريطانيا مع فرنسا حكم غالبية أجزاء الوطن العربي بعد تجزئته. وكانت أوروبا في هذه المرحلة ما تزال تهيمن على مقدرات القارات الأخرى، وان برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة كبيرة إلى جانبها. وقد تعاظمت مقاومة الشعوب المستعمرة للاستعمار في تلك الفترة. وكان من أمثلتها البارزة نضال شعب فلسطين العربي ونضال الشعوب العربية في بقية الوطن العربي. وظهرت أزمة القيم التي تعانيها الدول المستعمرة. وانعكست على تجربة عصبة الأمم. وهكذا تفجرت الحرب العالمية الثانية بعد عقدين من مؤتمر فرساي. ونلاحظ أن الغزوة الصهيونية استغلت هذا المناخ الدولي و أثرة على السياسة الأوروبية لتتغلغل في فلسطين، والتقت مع النازية في اصطناع حملات الاضطهاد ضد اليهود في أوطانهم لبلوغ أهدافها في تهجيرهم. ونلاحظ أيضا أن النضال العربي دخل مرحلة جديدة في هذه الفترة، فبرز النضال الوطني الذي فرضه واقع تجزئة الاستعمار للوطن العربي، ويمكننا أن نرى بالنظرة الشاملة لحركات هذا النضال الوطني في مختلف الأقطار العربية أن كان متأثرا بحقيقة ترابط الآمة العربية. وهكذا كانت الحركات تتجاوب عن بعد رغم التجزئة، ولقد نجح النضال العربي في أن يطرد الاستعمار من بعض هذه الأجزاء. وظهرت بوضوح موجة التحرير في الوطن العربي اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية.