هيمنت على الإنسان العربي- ومنذ بدايات تاريخه- أنماط معيشة التنقل والتجوال، وكانت سائدة في وجدانه… ولعله كان يرى في الاستقرار الثابت وسيلة لقمع تحرره، وما تنقله في المواقع إلا تنقل آخر في المواقف الفكرية والسلوكية، وتراوح من غير تركيز أو ثبات.
على ضوء ذلك لم نلحظ هذا العشق لمدينة / مكان ما إلا في أبيات شعرية متفرقة هنا وهناك- لا تتواصل حتى تؤلف قصيدة متكاملة، وإذا حدث أن استرسل الأديب في نفس أطول، فإنه يروي لنا عن آلامه أو حبه بما قد ينطبق على كل زمان أو كل مكان… فأين هي القصائد التي كتبت عن مكة أو بغداد أو القدس..؟ صحيح أن هناك قصائد تناولت حدثًا ما كحريق في مدينة أو خراب في أخرى، وصحيح كذلك أن هناك مقامات سميت بأسماء مدن وأماكن شتى، ولكن هذه جميعها لا تتقصى المكان والارتباط من خلال حس انتمائي، أو على الأقل بسمات جغرافية محددة لها، تأخذ مجالاً لإثراء النص…
وأنا لا أعني بالمكان ظواهر الطبيعة المختلفة كالريف أو الجبل أو روضة أو بستان…
لقد كان من المتوقع – مثلاً – أن نقرأ قصائد عن القدس ومكانتها الدينية، وذلك في فترة الصراع مع الصليبيين منذ بدايات القرنين الحادي عشر والثاني عشر، لكن النماذج الكثيرة لا تدل على نشوء ما أصطلِحُ عليه "شعر القدس" . فلو تتبعنا بعض الدراسات عن هذه الفترة، وخاصة الفصل الذي يتناول "تحرير بيت المقدس" في كتاب د.عمر موسى باشا- الأدب في بلاد الشام-[1] على سبيل المثال فإننا نجد قصائد كثيرة قيلت في الأحداث والتحرير، ولكننا لا نجد أبياتًا تتناول القدس مكانًا بشيء من التركيز ، أو ما يعكس خصوصية بارزة، بل كانت الأبيات مدحًا للأيوبيين ووصفًا لبطولاتهم، وذلك على غرار قول أبي الفضل الجلباني ( ت603 هجري):
الله أكبر أرض القدس قـــد صفرت
من آل أصفر إذ حَين بـــــــه حانوا
حتى بنيت رتــــــاجَ القدس منفرجًا
ويصـعـد الصخرة الصماء عثمان
واستقبل الناصر المحراب يعبد من
قد تــــــم مـــــن وعده فتح وإمكان
( باشا ، ص 442 )
ولا نستطيع أن نقع على قصيدة مستقلة تتحدث عن قدسية المكان وعن معالمه- أكثر من مجرد ذكر الاسم – وإنما هي شذرات – جمل وعبارات مختلفة؛ بل كان من المتوقع أن نقرأ قصائد القدس في كتب "فضائل القدس" الكثيرة أو في كتاب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل لمجير الدين الحنبلي (ت 1520م)، وفي كتب أخرى من هذا القبيل، أو في كتب الرحلات وما شابهها.[2]
غير أن الحال لم تكن بأفضل حتى منتصف القرن العشرين، مع أن القدس ومنذ بدايات هذا القرن أخذت تعيش في صراع جديد يستلزم بالضرورة أن تكون هناك قصائد معبّرة عن الخطر ومنذرة بما يحدق منه، فهذا خليل مطران (1871-1949)، في قصيدة "تحية للقدس الشريف"[3]، لا يجد إلا لغة التعميم في ذكره حبه لها:
سلامٌ على القدس الشريف ومن به
على جامـع الأضداد في إرث حبه
على البلد الطهر الذي تحت تربـه
قــلـــوبٌ غدت حبّاتها بعض تربه
ثم يأخذ الشاعر في وصف طريق وصوله، وما رآه، وذكر كرم أهل القدس في استقباله مؤكدًا على عنصر الحب في هذه المدينة الخالدة:
به مبعث للحب في كل موطئ
لأقدام فادي الناس من فرط حبّه
وهذا علي محمود طه (1902-1949) وهو من الشعراء المصريين القلائل الّذين أوردوا ذكر القدس، وتناولوا القضية الفلسطينية حينها - يقول:
أخي إن في القدس أختًا لنا
أعد لها الذابـحـــون المدى
أخي قم إلى قبلة المشركين
لنحمي الكنيسة والمسجدا [4]
وبنفس الروح وفي إشارات مماثلة يقول عمر أبو ريشة (1910-1991)
يا روابي القدس يا مجلى السنا
يا رؤى عيسى على جفن النبي [5]
أو يقول:
يا تثني البراق في ليلة الأسر
اء والوحي ممسك بعنانه[6]
وفي الشعر الفلسطيني الحديث يخصص إبراهيم طوقان(1905-1941)، قصيدة له بعنوان "القدس"، ولكنه لم يتناول فيها إلا ما وصفه "التطاحن الحربي الذي تفشى في فلسطين حينذاك"، وكانت القدس بوصفها عاصمة البلاد مركز ذلك التطاحن[7].
كما لا نجد في نشيد "يا ربا القدس" لأبي سلمى (1909-1984)، أي تخصيص يتعلق بالمدينة أو أي شعر عنها.[8]
ولم يحظ المسجد الأقصى بأكثر من إشارة سريعة في قصيدة عبد الرحيم محمود (1913-1948) "نجم السعود" وهي قصيدة موجهة إلى الأمير سعود بن عبد العزيز في طريقه إلى بيت المقدس (14/8/1935)، فيقول الشاعر:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
حرمٌ يـبــــــــاح لكل أوكعٍ آبقٍ
ولكل أفّاق شريدٌ أربـعـــــــــه [9]
* * * * *
طوّر الشعر الحديث المستجد في النصف الثاني من القرن العشرين أشكال القصيدة الحديثة ومضامينها، وقد أخذ يتناول قضايا جزئية أو معينة بشيء من التخصص والتفصيل، بمعنى أنه أخذ يركز على تفريعات لم يكن الشعر - آنفًا – يوليها وقفة طويلة أو اهتمامًا مركزًا. وعلى إثر الهزيمة العربية سنة1967 غنّت فيروز قصيدة "زهرة المدائن" من كلمات الأخوين عاصي ومنصور رحباني [10]، فترددت الأغنية على الأسماع، وكان لها عميق الأصداء ومن كلماتها:
عيوننا إليك ترحـــل كل يوم
تدور في أروقــــــــة المعابد
تـعــــانق الكنائس القديـمــــة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء
يا درب من مرّوا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم
وإنني أصلي
وفي تقديري أنّ هذه القصيدة كانت المشرع المؤثر الأول لـ "قصيدة القدس" ، وتلتها قصيدة نزار قباني (1923-1998) - القدس، ويبدأها:
بكيت… حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملني الركوع
سألت عن محمد فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
وفي نهاية المقطوعة الرابعة يتساءل الشاعر :
من يوقف العدوان
عليك يا لؤلؤة الأديان؟ [11]
وهذه القصيدة على غرار القصيدة المغناة من حيث لغة العشق والتفاؤل والبحث عن الخلاص، ومن حيث اللجوء الى الرموز الدينية لاستشفاف المأساة، والسطران الأخيران فيهما أبعاد دينية.
وفي الشعر الفلسطيني لم أجد قبل قصيدة أمين شنار (1934) "بيت المقدس" [12] مما يقع ضمن المواصفات التي حددتها لمفهوم "قصيدة القدس" ، وإليك سطورًا منها :
" هنا المآذن الحزينة التي تسامر النجوم
تمتد في وجوم
......
المسجد الأقصى هنا مسرى الرسول
مشى المسيح ها هنا وأمه البتول
زوها هنا الفاروق شاد مسجدا
هنا صلاح الدين روى العدا
هنا الوليد والمجيد والشهيد .... "
ثم طلع علينا أديب رفيق محمود (1933- ) ابن عنبتا بالقصيدة الأولى عن القدس بعد احتلال حزيران 67 ، وهي بعنوان "كلمات بالإزميل على سور القدس". [13]
يروي الراوي الشاعر كيف أنه سافر ليصلي في القدس ، ويقبّل هناك البلاط ويمضي واصفًا لنا أجواء القدس :
أسير في الشوارع التي أحب شارعًا فشارعا
أقلب العينين في الجدران، في المطرز الفضفاض
في الشموع…
ثم يمضي الراوي مستوحيا تاريخ صلاح الدين :
أواه يا مدينة السلام
يا روعة الصهيل، كبة الخيول
تعبر الأبواب في وضح النهار؟
هذا صلاح الدين [14]
إنه يود لو يستل سيف البطل ليقاوم هذه الحضارة المحنطة ، وليزيل القار ، ليزجر الغراب… وفي مثل هذا الجو القاتم يعود ليستذكر جمال المدينة وروعتها:
أواه يا مدينة السلام ...أين روعتك
أقول :أين بهجتك؟
يعترف الراوي انه يحب "باب السلسلة"ويعشق كل قوس، ويمر في كل باب تارة مطأطأ الجبين، وتارة باعتزاز وكأنه يناطح السحاب … وفي عشقه للنقوش والزخارف يشعر بالعزلة والوحشة من خلال استلهامه التاريخ العربي القبلي:
ولست من قيس ولا خزاعه
أنا الطريد والخليع والمعبّد المنفي
في بلادي المضاعه
يحدثنا عن وقوفه بخان "باب زيت" وهناك يشتري حاجته من بائعة قدمت من قرية "الخضر" ، وينقل لنا صورة الحياة اليومية ببؤسها، وينهي قصيدته بالفعل "أريد" الذي يلح في المطالبة ونشدان الحق:
هلاّ عرفت ما أريد
أريد أن أكون صادحا كما الكناري
أريد أن أكون ضاحكا كما الوليد
حريتي هي التي أريد
والقصيدة بمجملها تبحث عن السلام وعن الحرية، وتعكس هذا الحب للمدينة ومعالمها.
وفي مثل هذا التفاؤل يستذكر إدمون شحاده (1933- ) من الناصرة في قصيدته "مدينة السلام والآلام" [15] أغنية فيروز، فيبدأ قصيدته باقتباس مطلعها "شوارع القدس العتيقة"، ثم يقول:
بحزنها العتيق
تعيد صورة الأسطورة
…
فتشرئب في زوايا العطر والبريق
أنشودة الأيام والسنين
أسير مغرما
بلهفة البراءة النقيه
وفي التفاف كل منحنى
حكاية لحارس شرس
إنه يرى في القدس صراع تهليلة الطفلة ذات القبعة الحمراء مع الذئب، وكذلك يستذكر قصة الأمير حامل الأختام، وهو يوقع في ذلك مهازل المصير.. يستذكر الحكايات والأساطير من عالم البراءة ليصل إلى شراسة الواقع. يرى الشاعر ضياع الزيتون من خدود حبيبته، وضياع الكروم من عيونها، وضياع عنفوان صدرها، فلا يملك الاّ أن يتوجه إلى الأسرار والإيمان والصلاة – على نهج ما جاء في "زهرة المدائن":
يا لهف الكنائس المنزرعة في كل أشواك الحقول
وفي عيون حاملي صليبها
وقبة الأجراس في أعيادها
تتابع الفصول
ولكنه ومن خلال إحساس عربي بالقضية يتضامن مع موقف المسلم واعتباراته الدينية ، لأنه شريكه في الموقع والنضال:
يا بهجة المساجد العالية الأعناق
ويا امتداد ومضة الإيمان
في القلب والشفاه
ووحدة الرحمن
وإذا كنا قد رأينا قصيدة إدمون شحاده – وهو الشاعر المسيحي – تستلهم رموزًا إسلامية فإن فدوى طوقان (1919- 2003) الشاعرة المسلمة تستلهم هي الأخرى رموزًا مسيحية، وذلك في قصيدتها "إلى السيد المسيح في عيد ميلاده": [16]
يا سيد مجد الأكوان
في عيدك تصلب هذا العام
أفراح القدس
صمتت في عيدك يا سيد كل الأجراس
…
القدس على درب الآلام
تجلد تحت صليب المحنه
تنزف تحت يد الجلاد
والعالم قلب منغلق
دون المأساه
…
يا سيد مجد القدس
…
يرتفع إليك أنين القدس
رحماك أجز يا سيد هذي الكأس!
وكثيرا ما ترد رموز القدس الإسلامية والمسيحية في إطار التعبير القومي العربي، فهذا جمال قعوار (1930- ) مثلا يقول:
فالتمسوا غير الصخرة
غير الأقصى
غير القدس
فسور القدس منيع لا يهدم [17]
وإذا صح لي أن أستشهد بأشعاري فقد استعرت "درب الآلام" و "القيامة" للتعبير عن المأساة والهم الوطني:
كنيسة تدق في أجراسـهـــــا
" قيامة" مسيحيا يا ناصري!
يا درب آلامي أسير صــابرا
أمشي على إيلام جرح طاهر [18]
وقد لاحظ عامي إليعاد في دراسته بالعبرية، عن القدس في أدب "عرب إسرائيل" في فترة الانتفاضة (1987-1993) ، أن الشعراء الفلسطينيين، يذكرون رموز الديانتين الإسلامية والمسيحية من غير أن يذكروا الديانة اليهودية (ص9)، فعندما تطرق إلى قصيدتي "نقوش على ترنيمة الأقصى"، أشار الى التفاؤل الذي أختم به القصيدة، وأن المساجد والكنائس ستشارك فيه، ويرى أن تجاهل اليهود ومعابدهم بارز، كما أن اليهود يردون كثيرا بصورة الصليبيين (ص14)، وفي رأيي أن هذا الكلام غير دقيق، انظر ما جاء في قصيدة شحادة أعلاه وفيها يقول:
"والحجر المغروس عند حائط البكاء
يرسم صورة الدوائر الجبرية
ويستعيد وشوشات الملك الحكيم
ودورة الزمان تنزع الحراب والسيوف
من جرحنا القديم"
وانظر كذلك قصيدة درويش فيما يلي
إذن فاستلهام التاريخ يكون لخدمة الحاضر، فإذا كان الحاضر يجابه اليوم – وبحدة – موقفًا معاديًا متعنتًا، فإن مركز الخلاف يأخذ طابعًا دينيًا وقوميًا معًا، وبناء عليه، فمن الطبيعي ألا تأخذ الرؤية اليهودية حيزًا كبيرًا في الكتابة الفلسطينية.
بل إن محمود درويش ( 1941 - ) في مقطوعة أفردها للقدس (المقطوعة السابعة عشرة من ديوان أحبك أو لا أحبك-1973)، يستعمل رموزًا تتعلق بتاريخ اليهود ليكسبها بعدًا فلسطينيًا، أو ليلبسها التاريخ الفلسطيني:
ونغني القدس:
يا أطفال بابل
يا مواليد السلاسل
ستعودون إلى القدس قريبا
وقريبًا تكبرون
وقريبًا تحصدون القمح من ذاكرة الماضي
وقريبًا يصبح الدمع سنابل
آه يا أطفال بابل
ستعودون الى القدس قريبا
…
هللويا
هللوي [19]
فسبي اليهود إلى بابل في التاريخ صار سبيًا وقضية للفلسطيني، و(هللويا) صارت آية التجميد الحالية، بدلا من كونها لفظة عبرية وردت في المزامير، فلا بدع إذن – أن يسمي الشاعر هذه المقطوعات من ديوانه "مزامير".
ويبرر ذلك درويش: "إنني اعتبر نفسي كفلسطيني وكنتاج هذه الأرض الفلسطينية أحد الذين يملكون حق أن يرثوا كل تاريخ الإبداع والثقافة التي جرت على هذه الأرض ومنها "التوراة" [20]
وإذا كان صوت فدوى – أعلاه – يئن في معاناته وشكاته- وهو مشحون بالطاقة التراثية الدينية – فإنّ عبد اللطيف عقل (1942-1993) مشحون بطاقة المعاناة الحاليّة، وهو لا يرى إلا صورة المحتل ورصاصة الطائش الأثم ، وما القدس إلا خلاصة الوطن الجريح:
أنا في القدس
ومن في القدس
يلتف به السور، وما من حجر في السور
إلا وله صدر موشى
بالرصاص الطائش العمد، وأعشاش حمام
المسجد الأقصى وآلاف المصلين
وعبد الله في باب الخليل ارتصّ كالعلبة
أخّ يا هذا الرصاص الطائش العمد،
أنا القدس وتغريد التي يعرفها الجند
ولا تعرف أمها والصبح والدفتر
والموت وروح الشعب والأرض
وفيها تشتهي الأنثى الأحاديث
عن الأعراس في الصيف
وتطريز فساتين القصب [21]
فلا بد إذن من مقارعة المحتل ومقاومته، فكانت "قصيدة القدس" تنحو هذا المنحى في قصائد كثيرة....
يقول راشد حسين (1936-1977)، في قصيدة "القدس والساعة":
كانت الساعة في القدس قتيلاً وجريحًا ودقيقه
ولهذا كلما مرت بمحتلّي عيون القدس طفله
طفلة بنت صغيره
فتشت أعينهم آلاتهم في
صدرها
في رحمها
في عقلها
عن قنبله
وإذا لم يجدوا شيئًا أصروا
"هذه البنت الصغيره
ولدت في القدس
والمولود في القدس
سيضحى قنبله
صدقوا… المولود في ظل القنابل
سوف يضحى قنبله" [22]
ويكتب جمال قعوار ( 1931 - ) قصيدته مباشرة بعد الانتفاضة مخاطبًا القدس في قصيدته "العنوان الجديد" وهو يتحدث فيها عن القدس، وعن الطفلة التي تعلم المحتل معنى الصمود، وينهيها بالقول:
جددي يا قدس عهدا
واكتبي في الكون مجدا
وانشري في أضلع المحتل رعبا
ليس يهدا
…
لتعود القدس حره
ولتبقى أبدا في جبهة التاريخ غره [23]
أشرت سابقًا إلى أن قصيدة "زهرة المدائن" كانت فاتحة القصائد التي تناولت المدينة بقصائد متفائلة أو باحثة عن الخلاص، حتى أصبحت "قصيدة القدس" (موتيفًا) سواء كان في وصف واقع المأساة أو في محاولة التحرر والخروج من الحيف والاحتلال.
غير أن قصيدة مظفر النواب (1934 ) "وتريات ليلية" وقد كتبها بين الأعوام (1970-1975) كانت ذات طابع هجومي حاد فيها اتهام للعرب بالقصور ، وفيها يأس تنفّس عنه شتائم متتابعة لا تستثني الشاعر نفسه :
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافحتم شرفًا
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبه؟ [24]
وهذه القصيدة حملت توجهًا جديدًا سرعان ما لاقى أصداء متباينة في الشعر الفلسطيني، فهذا فوزي البكري (1946- ) يصدر ديوانًا بعنوان صعلوك القدس القديمة يضمنه القصيدة "هل يسكت بيت المقدس؟" فيقول :
قدسه الله… فسبحان الله
ماذا في بيت المقدس
يا عرب النفط/ القحط/ السخط
يا كل دراويش الجامعة العربيه
فلتسقط كل منابركم
وليسقط كل أساطين اللغط [25]
يحدثنا الراوي عن آلات الحفر في المدينة للتنقيب عن الآثار اليهودية :
"فماذا يبقى لنا؟ هل نرفع أيدينا بالدعوات؟ يا "عبد الملك" استيقظ، فالقدس تنوء بصرختها"…
إنه يحذر من المآل، وكأنه يتحدث بلسان النبوءة التي وردت على لسان بعض أنبياء بني إسرائيل [26]، وهم يتوقعون خراب المدينة، فيقول:
على ضوء ذلك لم نلحظ هذا العشق لمدينة / مكان ما إلا في أبيات شعرية متفرقة هنا وهناك- لا تتواصل حتى تؤلف قصيدة متكاملة، وإذا حدث أن استرسل الأديب في نفس أطول، فإنه يروي لنا عن آلامه أو حبه بما قد ينطبق على كل زمان أو كل مكان… فأين هي القصائد التي كتبت عن مكة أو بغداد أو القدس..؟ صحيح أن هناك قصائد تناولت حدثًا ما كحريق في مدينة أو خراب في أخرى، وصحيح كذلك أن هناك مقامات سميت بأسماء مدن وأماكن شتى، ولكن هذه جميعها لا تتقصى المكان والارتباط من خلال حس انتمائي، أو على الأقل بسمات جغرافية محددة لها، تأخذ مجالاً لإثراء النص…
وأنا لا أعني بالمكان ظواهر الطبيعة المختلفة كالريف أو الجبل أو روضة أو بستان…
لقد كان من المتوقع – مثلاً – أن نقرأ قصائد عن القدس ومكانتها الدينية، وذلك في فترة الصراع مع الصليبيين منذ بدايات القرنين الحادي عشر والثاني عشر، لكن النماذج الكثيرة لا تدل على نشوء ما أصطلِحُ عليه "شعر القدس" . فلو تتبعنا بعض الدراسات عن هذه الفترة، وخاصة الفصل الذي يتناول "تحرير بيت المقدس" في كتاب د.عمر موسى باشا- الأدب في بلاد الشام-[1] على سبيل المثال فإننا نجد قصائد كثيرة قيلت في الأحداث والتحرير، ولكننا لا نجد أبياتًا تتناول القدس مكانًا بشيء من التركيز ، أو ما يعكس خصوصية بارزة، بل كانت الأبيات مدحًا للأيوبيين ووصفًا لبطولاتهم، وذلك على غرار قول أبي الفضل الجلباني ( ت603 هجري):
الله أكبر أرض القدس قـــد صفرت
من آل أصفر إذ حَين بـــــــه حانوا
حتى بنيت رتــــــاجَ القدس منفرجًا
ويصـعـد الصخرة الصماء عثمان
واستقبل الناصر المحراب يعبد من
قد تــــــم مـــــن وعده فتح وإمكان
( باشا ، ص 442 )
ولا نستطيع أن نقع على قصيدة مستقلة تتحدث عن قدسية المكان وعن معالمه- أكثر من مجرد ذكر الاسم – وإنما هي شذرات – جمل وعبارات مختلفة؛ بل كان من المتوقع أن نقرأ قصائد القدس في كتب "فضائل القدس" الكثيرة أو في كتاب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل لمجير الدين الحنبلي (ت 1520م)، وفي كتب أخرى من هذا القبيل، أو في كتب الرحلات وما شابهها.[2]
غير أن الحال لم تكن بأفضل حتى منتصف القرن العشرين، مع أن القدس ومنذ بدايات هذا القرن أخذت تعيش في صراع جديد يستلزم بالضرورة أن تكون هناك قصائد معبّرة عن الخطر ومنذرة بما يحدق منه، فهذا خليل مطران (1871-1949)، في قصيدة "تحية للقدس الشريف"[3]، لا يجد إلا لغة التعميم في ذكره حبه لها:
سلامٌ على القدس الشريف ومن به
على جامـع الأضداد في إرث حبه
على البلد الطهر الذي تحت تربـه
قــلـــوبٌ غدت حبّاتها بعض تربه
ثم يأخذ الشاعر في وصف طريق وصوله، وما رآه، وذكر كرم أهل القدس في استقباله مؤكدًا على عنصر الحب في هذه المدينة الخالدة:
به مبعث للحب في كل موطئ
لأقدام فادي الناس من فرط حبّه
وهذا علي محمود طه (1902-1949) وهو من الشعراء المصريين القلائل الّذين أوردوا ذكر القدس، وتناولوا القضية الفلسطينية حينها - يقول:
أخي إن في القدس أختًا لنا
أعد لها الذابـحـــون المدى
أخي قم إلى قبلة المشركين
لنحمي الكنيسة والمسجدا [4]
وبنفس الروح وفي إشارات مماثلة يقول عمر أبو ريشة (1910-1991)
يا روابي القدس يا مجلى السنا
يا رؤى عيسى على جفن النبي [5]
أو يقول:
يا تثني البراق في ليلة الأسر
اء والوحي ممسك بعنانه[6]
وفي الشعر الفلسطيني الحديث يخصص إبراهيم طوقان(1905-1941)، قصيدة له بعنوان "القدس"، ولكنه لم يتناول فيها إلا ما وصفه "التطاحن الحربي الذي تفشى في فلسطين حينذاك"، وكانت القدس بوصفها عاصمة البلاد مركز ذلك التطاحن[7].
كما لا نجد في نشيد "يا ربا القدس" لأبي سلمى (1909-1984)، أي تخصيص يتعلق بالمدينة أو أي شعر عنها.[8]
ولم يحظ المسجد الأقصى بأكثر من إشارة سريعة في قصيدة عبد الرحيم محمود (1913-1948) "نجم السعود" وهي قصيدة موجهة إلى الأمير سعود بن عبد العزيز في طريقه إلى بيت المقدس (14/8/1935)، فيقول الشاعر:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
حرمٌ يـبــــــــاح لكل أوكعٍ آبقٍ
ولكل أفّاق شريدٌ أربـعـــــــــه [9]
* * * * *
طوّر الشعر الحديث المستجد في النصف الثاني من القرن العشرين أشكال القصيدة الحديثة ومضامينها، وقد أخذ يتناول قضايا جزئية أو معينة بشيء من التخصص والتفصيل، بمعنى أنه أخذ يركز على تفريعات لم يكن الشعر - آنفًا – يوليها وقفة طويلة أو اهتمامًا مركزًا. وعلى إثر الهزيمة العربية سنة1967 غنّت فيروز قصيدة "زهرة المدائن" من كلمات الأخوين عاصي ومنصور رحباني [10]، فترددت الأغنية على الأسماع، وكان لها عميق الأصداء ومن كلماتها:
عيوننا إليك ترحـــل كل يوم
تدور في أروقــــــــة المعابد
تـعــــانق الكنائس القديـمــــة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء
يا درب من مرّوا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم
وإنني أصلي
وفي تقديري أنّ هذه القصيدة كانت المشرع المؤثر الأول لـ "قصيدة القدس" ، وتلتها قصيدة نزار قباني (1923-1998) - القدس، ويبدأها:
بكيت… حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملني الركوع
سألت عن محمد فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
وفي نهاية المقطوعة الرابعة يتساءل الشاعر :
من يوقف العدوان
عليك يا لؤلؤة الأديان؟ [11]
وهذه القصيدة على غرار القصيدة المغناة من حيث لغة العشق والتفاؤل والبحث عن الخلاص، ومن حيث اللجوء الى الرموز الدينية لاستشفاف المأساة، والسطران الأخيران فيهما أبعاد دينية.
وفي الشعر الفلسطيني لم أجد قبل قصيدة أمين شنار (1934) "بيت المقدس" [12] مما يقع ضمن المواصفات التي حددتها لمفهوم "قصيدة القدس" ، وإليك سطورًا منها :
" هنا المآذن الحزينة التي تسامر النجوم
تمتد في وجوم
......
المسجد الأقصى هنا مسرى الرسول
مشى المسيح ها هنا وأمه البتول
زوها هنا الفاروق شاد مسجدا
هنا صلاح الدين روى العدا
هنا الوليد والمجيد والشهيد .... "
ثم طلع علينا أديب رفيق محمود (1933- ) ابن عنبتا بالقصيدة الأولى عن القدس بعد احتلال حزيران 67 ، وهي بعنوان "كلمات بالإزميل على سور القدس". [13]
يروي الراوي الشاعر كيف أنه سافر ليصلي في القدس ، ويقبّل هناك البلاط ويمضي واصفًا لنا أجواء القدس :
أسير في الشوارع التي أحب شارعًا فشارعا
أقلب العينين في الجدران، في المطرز الفضفاض
في الشموع…
ثم يمضي الراوي مستوحيا تاريخ صلاح الدين :
أواه يا مدينة السلام
يا روعة الصهيل، كبة الخيول
تعبر الأبواب في وضح النهار؟
هذا صلاح الدين [14]
إنه يود لو يستل سيف البطل ليقاوم هذه الحضارة المحنطة ، وليزيل القار ، ليزجر الغراب… وفي مثل هذا الجو القاتم يعود ليستذكر جمال المدينة وروعتها:
أواه يا مدينة السلام ...أين روعتك
أقول :أين بهجتك؟
يعترف الراوي انه يحب "باب السلسلة"ويعشق كل قوس، ويمر في كل باب تارة مطأطأ الجبين، وتارة باعتزاز وكأنه يناطح السحاب … وفي عشقه للنقوش والزخارف يشعر بالعزلة والوحشة من خلال استلهامه التاريخ العربي القبلي:
ولست من قيس ولا خزاعه
أنا الطريد والخليع والمعبّد المنفي
في بلادي المضاعه
يحدثنا عن وقوفه بخان "باب زيت" وهناك يشتري حاجته من بائعة قدمت من قرية "الخضر" ، وينقل لنا صورة الحياة اليومية ببؤسها، وينهي قصيدته بالفعل "أريد" الذي يلح في المطالبة ونشدان الحق:
هلاّ عرفت ما أريد
أريد أن أكون صادحا كما الكناري
أريد أن أكون ضاحكا كما الوليد
حريتي هي التي أريد
والقصيدة بمجملها تبحث عن السلام وعن الحرية، وتعكس هذا الحب للمدينة ومعالمها.
وفي مثل هذا التفاؤل يستذكر إدمون شحاده (1933- ) من الناصرة في قصيدته "مدينة السلام والآلام" [15] أغنية فيروز، فيبدأ قصيدته باقتباس مطلعها "شوارع القدس العتيقة"، ثم يقول:
بحزنها العتيق
تعيد صورة الأسطورة
…
فتشرئب في زوايا العطر والبريق
أنشودة الأيام والسنين
أسير مغرما
بلهفة البراءة النقيه
وفي التفاف كل منحنى
حكاية لحارس شرس
إنه يرى في القدس صراع تهليلة الطفلة ذات القبعة الحمراء مع الذئب، وكذلك يستذكر قصة الأمير حامل الأختام، وهو يوقع في ذلك مهازل المصير.. يستذكر الحكايات والأساطير من عالم البراءة ليصل إلى شراسة الواقع. يرى الشاعر ضياع الزيتون من خدود حبيبته، وضياع الكروم من عيونها، وضياع عنفوان صدرها، فلا يملك الاّ أن يتوجه إلى الأسرار والإيمان والصلاة – على نهج ما جاء في "زهرة المدائن":
يا لهف الكنائس المنزرعة في كل أشواك الحقول
وفي عيون حاملي صليبها
وقبة الأجراس في أعيادها
تتابع الفصول
ولكنه ومن خلال إحساس عربي بالقضية يتضامن مع موقف المسلم واعتباراته الدينية ، لأنه شريكه في الموقع والنضال:
يا بهجة المساجد العالية الأعناق
ويا امتداد ومضة الإيمان
في القلب والشفاه
ووحدة الرحمن
وإذا كنا قد رأينا قصيدة إدمون شحاده – وهو الشاعر المسيحي – تستلهم رموزًا إسلامية فإن فدوى طوقان (1919- 2003) الشاعرة المسلمة تستلهم هي الأخرى رموزًا مسيحية، وذلك في قصيدتها "إلى السيد المسيح في عيد ميلاده": [16]
يا سيد مجد الأكوان
في عيدك تصلب هذا العام
أفراح القدس
صمتت في عيدك يا سيد كل الأجراس
…
القدس على درب الآلام
تجلد تحت صليب المحنه
تنزف تحت يد الجلاد
والعالم قلب منغلق
دون المأساه
…
يا سيد مجد القدس
…
يرتفع إليك أنين القدس
رحماك أجز يا سيد هذي الكأس!
وكثيرا ما ترد رموز القدس الإسلامية والمسيحية في إطار التعبير القومي العربي، فهذا جمال قعوار (1930- ) مثلا يقول:
فالتمسوا غير الصخرة
غير الأقصى
غير القدس
فسور القدس منيع لا يهدم [17]
وإذا صح لي أن أستشهد بأشعاري فقد استعرت "درب الآلام" و "القيامة" للتعبير عن المأساة والهم الوطني:
كنيسة تدق في أجراسـهـــــا
" قيامة" مسيحيا يا ناصري!
يا درب آلامي أسير صــابرا
أمشي على إيلام جرح طاهر [18]
وقد لاحظ عامي إليعاد في دراسته بالعبرية، عن القدس في أدب "عرب إسرائيل" في فترة الانتفاضة (1987-1993) ، أن الشعراء الفلسطينيين، يذكرون رموز الديانتين الإسلامية والمسيحية من غير أن يذكروا الديانة اليهودية (ص9)، فعندما تطرق إلى قصيدتي "نقوش على ترنيمة الأقصى"، أشار الى التفاؤل الذي أختم به القصيدة، وأن المساجد والكنائس ستشارك فيه، ويرى أن تجاهل اليهود ومعابدهم بارز، كما أن اليهود يردون كثيرا بصورة الصليبيين (ص14)، وفي رأيي أن هذا الكلام غير دقيق، انظر ما جاء في قصيدة شحادة أعلاه وفيها يقول:
"والحجر المغروس عند حائط البكاء
يرسم صورة الدوائر الجبرية
ويستعيد وشوشات الملك الحكيم
ودورة الزمان تنزع الحراب والسيوف
من جرحنا القديم"
وانظر كذلك قصيدة درويش فيما يلي
إذن فاستلهام التاريخ يكون لخدمة الحاضر، فإذا كان الحاضر يجابه اليوم – وبحدة – موقفًا معاديًا متعنتًا، فإن مركز الخلاف يأخذ طابعًا دينيًا وقوميًا معًا، وبناء عليه، فمن الطبيعي ألا تأخذ الرؤية اليهودية حيزًا كبيرًا في الكتابة الفلسطينية.
بل إن محمود درويش ( 1941 - ) في مقطوعة أفردها للقدس (المقطوعة السابعة عشرة من ديوان أحبك أو لا أحبك-1973)، يستعمل رموزًا تتعلق بتاريخ اليهود ليكسبها بعدًا فلسطينيًا، أو ليلبسها التاريخ الفلسطيني:
ونغني القدس:
يا أطفال بابل
يا مواليد السلاسل
ستعودون إلى القدس قريبا
وقريبًا تكبرون
وقريبًا تحصدون القمح من ذاكرة الماضي
وقريبًا يصبح الدمع سنابل
آه يا أطفال بابل
ستعودون الى القدس قريبا
…
هللويا
هللوي [19]
فسبي اليهود إلى بابل في التاريخ صار سبيًا وقضية للفلسطيني، و(هللويا) صارت آية التجميد الحالية، بدلا من كونها لفظة عبرية وردت في المزامير، فلا بدع إذن – أن يسمي الشاعر هذه المقطوعات من ديوانه "مزامير".
ويبرر ذلك درويش: "إنني اعتبر نفسي كفلسطيني وكنتاج هذه الأرض الفلسطينية أحد الذين يملكون حق أن يرثوا كل تاريخ الإبداع والثقافة التي جرت على هذه الأرض ومنها "التوراة" [20]
وإذا كان صوت فدوى – أعلاه – يئن في معاناته وشكاته- وهو مشحون بالطاقة التراثية الدينية – فإنّ عبد اللطيف عقل (1942-1993) مشحون بطاقة المعاناة الحاليّة، وهو لا يرى إلا صورة المحتل ورصاصة الطائش الأثم ، وما القدس إلا خلاصة الوطن الجريح:
أنا في القدس
ومن في القدس
يلتف به السور، وما من حجر في السور
إلا وله صدر موشى
بالرصاص الطائش العمد، وأعشاش حمام
المسجد الأقصى وآلاف المصلين
وعبد الله في باب الخليل ارتصّ كالعلبة
أخّ يا هذا الرصاص الطائش العمد،
أنا القدس وتغريد التي يعرفها الجند
ولا تعرف أمها والصبح والدفتر
والموت وروح الشعب والأرض
وفيها تشتهي الأنثى الأحاديث
عن الأعراس في الصيف
وتطريز فساتين القصب [21]
فلا بد إذن من مقارعة المحتل ومقاومته، فكانت "قصيدة القدس" تنحو هذا المنحى في قصائد كثيرة....
يقول راشد حسين (1936-1977)، في قصيدة "القدس والساعة":
كانت الساعة في القدس قتيلاً وجريحًا ودقيقه
ولهذا كلما مرت بمحتلّي عيون القدس طفله
طفلة بنت صغيره
فتشت أعينهم آلاتهم في
صدرها
في رحمها
في عقلها
عن قنبله
وإذا لم يجدوا شيئًا أصروا
"هذه البنت الصغيره
ولدت في القدس
والمولود في القدس
سيضحى قنبله
صدقوا… المولود في ظل القنابل
سوف يضحى قنبله" [22]
ويكتب جمال قعوار ( 1931 - ) قصيدته مباشرة بعد الانتفاضة مخاطبًا القدس في قصيدته "العنوان الجديد" وهو يتحدث فيها عن القدس، وعن الطفلة التي تعلم المحتل معنى الصمود، وينهيها بالقول:
جددي يا قدس عهدا
واكتبي في الكون مجدا
وانشري في أضلع المحتل رعبا
ليس يهدا
…
لتعود القدس حره
ولتبقى أبدا في جبهة التاريخ غره [23]
أشرت سابقًا إلى أن قصيدة "زهرة المدائن" كانت فاتحة القصائد التي تناولت المدينة بقصائد متفائلة أو باحثة عن الخلاص، حتى أصبحت "قصيدة القدس" (موتيفًا) سواء كان في وصف واقع المأساة أو في محاولة التحرر والخروج من الحيف والاحتلال.
غير أن قصيدة مظفر النواب (1934 ) "وتريات ليلية" وقد كتبها بين الأعوام (1970-1975) كانت ذات طابع هجومي حاد فيها اتهام للعرب بالقصور ، وفيها يأس تنفّس عنه شتائم متتابعة لا تستثني الشاعر نفسه :
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافحتم شرفًا
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبه؟ [24]
وهذه القصيدة حملت توجهًا جديدًا سرعان ما لاقى أصداء متباينة في الشعر الفلسطيني، فهذا فوزي البكري (1946- ) يصدر ديوانًا بعنوان صعلوك القدس القديمة يضمنه القصيدة "هل يسكت بيت المقدس؟" فيقول :
قدسه الله… فسبحان الله
ماذا في بيت المقدس
يا عرب النفط/ القحط/ السخط
يا كل دراويش الجامعة العربيه
فلتسقط كل منابركم
وليسقط كل أساطين اللغط [25]
يحدثنا الراوي عن آلات الحفر في المدينة للتنقيب عن الآثار اليهودية :
"فماذا يبقى لنا؟ هل نرفع أيدينا بالدعوات؟ يا "عبد الملك" استيقظ، فالقدس تنوء بصرختها"…
إنه يحذر من المآل، وكأنه يتحدث بلسان النبوءة التي وردت على لسان بعض أنبياء بني إسرائيل [26]، وهم يتوقعون خراب المدينة، فيقول: