كان الأدب العبري حتى بداية القرن العشرين محصورا في شرق أوروبا, فيما كان عدد اليهود في فلسطين حتى 1855م لم يزد عن عشرة آلاف وخمسمائة نسمة.
في عام 1882م بدأت الهجرة الأولى, حتى بلغ عددهم خمسين إلفا في عام 1989م. في عام 1907م بدأت الهجرة الثانية التي أضافت حوالي خمسين ألفا أخرى, بينما بدأت الهجرة الثالثة في 1922م, وبلغ عددهم مائة وخمسة وستين ألفا عام 1930م.
منذ التاريخ الأخير بدأ يتبلور اتجاه ثقافي عبري, مواز إلى الاتجاه النشط في الاتحاد السوفيتي, أو الذي كان كذلك قبل الثورة البلشفية.. وقد استمر حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
لم يكن الأديب العبري خلال الفترة المشار إليها متعايشا مع الواقع الجديد في فلسطين, وهو ما عبر عنه الناقد اليهودي "شاكيد جرشون" بقوله: "لقد مضى على وجود جسدي في فلسطين عشر سنوات, ولكن روحي مازالت هائمة في المنفى. إننى لم آت بعد لفلسطين, بل مازلت في الطريق إليها", وهو المسجل في كتاب "في فلسطين والشتات- الجزء الثاني- عام 1983 ص28)
وظل أدب تلك الفترة خاضعا لأدب المرحلة السابقة أو "أدب الهسكالاه" أو "أدب عصر التنوير اليهودي في شرق أوروبا".. أطلقوا عليه "الأدب العبري الفلسطيني". وهو ما تميز بالخصائص التالية:
- وصف الطبيعة وأنماط البشر, والفلسطيني منها, انحصر وصف الفلسطيني على أنه البدوي أو الفلاح, من أدباء المرحلة "موشيه سميلانسكى" أو "الخواجة موسى" (1874-1953)
- الأدب الطليعي, وهو المتهم بوصف الصراع بين المستوطنين والفلسطينيين أصحاب الأرض, أطلق عليهم لقب الرواد, منهم "يهودا بورلا (1886- 1968)
- القصص الريبورتاجية, وهى التي ركنت إلى وصف الصراع ورصده, مع الطبيعة والعربي. كما رصدت بداية الإحساس بالغربة, مع قص الأساطير ذات الطابع الديني والرومانسي, منهم "يوسف حييم" (18881- 1921), و"يوسف عجنون" (1970).
فلما كانت الهجرة الثالثة وما بعدها (خصوصا من المانيا منذ 1929م), انشغل الأدباء برؤية الواقع الفلسطينى الجديد الناشئ عن الصراع بين الصهاينة والعرب في الفترة (1920-1921م).. النزاع حول حائط المبكى في 1929م.. ثم أحداث ثورة 1936حتى 1939م.
خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات, عبر جيل "البالماخ" أو "جيل سرايا الصاعقة", حيث شارك عدد من الأدباء في أعمال عسكرية.. ليأتي بعدهم "جيل الدولة" أو "الموجة الجديد".. وهم أدباء التعبير العبري بعد إعلان دولتهم في 1948م.
وهناك رؤية أخرى في دراسة وقسمة الأدب العبري المعاصر.. بالنظر بداية إلى الإنتاج الأدبي لمواليد فلسطين من الأدباء أبناء المهاجرين إلى فلسطين.
بظهور "يزهار سميلانسكي" أو "ساميخ يزهار" وهو أيضا "س. يزهار" الذي ولد في فلسطين عام 1916م, عن أبوين يهود هاجرا إلى فلسطين من قبل. تميز أدب "س. يزهار" وقد قالوا عنه أنه صاحب إعجاز لغوي غير عادي في التعبير باللغة العبرية.
لعل مجمل ملامح هذا الجيل من الأدباء العبريين:
أنهم البناء الأول للهيكل الثقافي الجديد.. منهم "س. يزهار", "يجال موسينسون", و "موشيه شامير".. عاصر هؤلاء فترات الصدام المباشر مع الفلسطينيين أعوام 1921و 1929 و 1936 حتى 1939, ثم الصدام مع قوات الانتداب البريطاني.. بينما أبناء جيل الهجرات الأولى تعلم بواسطة "الحيدر" أو ما يشبه الكتاب في القرية المصرية قديما, تعلم مواليد فلسطين بمدارس علمانية بالإضافة إلى التعليم الديني.. رواد التهجير يمثلهم (جالوت) أو يهودي الشتات التقليدي, بينما هؤلاء يمثلهم شخصية (الإسرائيلي), وهو نمط للشخصية اليهودية جديد.. منهم تشكلت شخصية (الصبار) الذي شارك في معارك عسكرية, وهو ما أضاف خبرات خاصة ليهودي فلسطين.
أهم ملامحه الأدبية هو إفراز "الأدب المجند" المعبأ بالمفاهيم والقيم الصهيونية المتعالية المثالية, والعنصرية المتعصبة.
أما وقد أعلنت دولتهم في عام 1948م, فشعر الأديب العبري بالورطة النفسية.. حيث الحديث بلغة الـ "نحن" وغلبة العام على الخاص, وبالمصالح العامة قبل الخاصة.. وإلى هدف تم تحقيقه.. فكانت مشاعر الغربة والاغتراب, ونمط أدبي جديد.
ملامح عامة..
لقد عبرت الأيديولوجية الصهيونية عن جملة أفكار مترابطة ونابعة من جملة معتقدات وأساطير وأحداث تاريخية , بحيث أصبح وعي الملايين من العامة أو الخاصة, من اليهود ومن غير اليهود عاجزون عن التميز بين الحقيقي والخيالي, بين ما هو صحيح وما هو مزيف تاريخيا (1).
كما أن "الصهيونية " تدعي أنها تعبر عن يهود العالم, وبالتالي يدين لها بالولاء كل يهودي, ومن يرفض التفسيرات القومية للديانة اليهودية (باعتبار اليهودية ذات مفهوم قومي), يتهم بالخيانة. وهو ما كان مع "المجلس الأمريكي لليهود" الذي اتهم من قبل الحركة الصهيونية بالتنكر للدين اليهودي, وخيانة أصولها ومحاباة العرب وتأييد قضاياهم (2)
تنحصر الأفكار الرئيسية للصهيونية في عدد من المقولات: اليهود هم شعب الله المختار – اليهود هم شعب ذو مصير تاريخي وسمات خاصة لا تتصف بها الشعوب الأخرى – كل يهودي ينتمي إلى الأمة اليهودية ويجب على اليهود أن يطمحوا للعودة إلى موطنهم القديم فلسطين.
وضح تداخل الفكر الصهيوني مع الدين اليهودي, وقد رفع "هرتزل" الراية بمقولة شهيرة له, أن الغاية تبرر الوسيلة.
انتبه الساسة وأصحاب الرأي منذ بدايات الدعوة الصهيونية, إلى أهمية توظيف الأدب (الأدب العبري) من أجل تحقيق جملة الأهداف السياسية, ثم بات الأدب وسيلة تحت قبضة السلطة الحاكمة بعد إعلان دولتهم في 1948م. تلك العلاقة المتداخلة بين الصهيونية والأدب, وبين السلطة والكاتب (الأديب), عبرت عن نفسها في الآتي: (3)
1- الأدب العبري في إسرائيل يواكب أهداف السلطة, وهو أداة في يدها لتحريك الجماهير اليهودية, وهو أدب يحمل سمات الصنعة (أحيانا), بحيث أصبح الأدباء العبريون أبواق للسلطة الحاكمة, ولما تمليه الصهيونية, وأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة. (4)
2- الأدب يخدم ما يسمى "بالقومية اليهودية", وارتباطها بفلسطين أرضا وتاريخا. وفقا للمبادئ التي قام قادة الحركة الصهيونية يخوضون على أساسها حملاتهم السياسية لتحقيق الأهداف الصهيونية.(5)
لقد أثمرت توجهات الصهيونية تلك في الأدب العبري, بتلك النظرة المتعالية نحو "الآخر" عامة, و "العربي" خاصة:
تقول الشاعرة "أنا جرينو" في إحدى القصائد التي تتعالى فيها على "الآخر":
"قالت لي أمي بأني
ابنة لشعب غنى بالأسفار.. والأغيار جهلة
حدثتني أن أكون بالمقدمة
لأني يهودية
قالت أمي "اننى ابنة شعب لا يقبل الضياع
واجبي مواصلة الدرب.. درب أبي
لمواجهة الأغيار الأعداء
ولو كانوا كل العالم" (6)
وما كانت لتلك النظرة إلى الآخر من وسيلة, إلا العنف, حتى وإن كان القتل والاغتصاب, وهو ما عبر عنه الشاعر "جبرائيل اليشع" قائلا:
"لا تطلب الغفران كقط ساعة النزهة
هذا زمن الذئاب المغتصبة
لا التنسك ولا الصومعة" (7)
وقد حاول بعض الأدباء العبريين تبرير ذلك العنف, بأن ما تعرض له اليهودي على يد النازي في ألمانيا, هو السبب, وهو ما قال به القاص الإسرائيلي "فشنر" في إحدى قصصه القصيرة.
أن اليهودي الموجوع بموت حبيبته "سارة" على يد النازي, يقتل "العربي" ثأرا من النازي!, سرد في قصته "الينبوع" يقول: "كان متعبا, ولكنه أحس جسده خفيفا بصورة لا تصدق, واستدار نحو الدبابتين, هذا من أجلك يا سارة, من أجلك".. حيث تابع معركته مع العربي. (
وهو المعنى نفسه الذي كرره الكاتب "فشنر" في روايته "لصوص الليل": يمارس الإرهاب في فلسطين , لماذا؟ لأن "دينا" قتلت في ألمانيا" (9)
هكذا, حتى أصبح قاتل العربي بطلا, وصفة البطولة ارتبطت بقتل العربي! ففي قصيدة للشاعر الاسرائيلى "أيوناثان غيفن" بعنوان "عدت من إجازتي", يقول الشاعر:
"يجب عليك أن تقتل
حين تعود وتقص على والدتك
أشياء كثيرة وجميلة
أشياء جميلة
لماذا القتال؟!
لماذا هذا السلوك من العرب؟!" (10)
قد تخبو نغمة العنف حينا, مثلما تلاحظ بعد معارك أكتوبر 73م, إلا أنه سرعان ما يعود, ويطفو على سطح الصفحات الأدبية بالصحف والكتب الأدبية. وهو ما تلاحظ عام 1982م أثناء معارك لبنان. فقد نشر الملحق الأدبي لجريدة "هآرتس" الإسرائيلية قصيدة بعنوان "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة" لشاعر يدعى "أكور" في 2-7-1982م يقول:
"لو كنت قائدا لمنطقة بيروت
المحاصرة والمختنقة لصرخت
في وجه كل أولئك الذين يطالبون
إعادة المياه
ويصرخون ويتألمون ويطالبون
إعادة الدواء والطعام
إلى المدينة المحاصرة"
يتابع الشاعر, حيث يطالب بأكثر من ذلك:
"لو كنت قائدا لجيشنا العظيم
لزرعت الموت والدمار
في كل المزارع والشوارع
في كل المساجد والكنائس" (11)
إنها الدعوة إلى "العنف" , إنها ملامح أدب عنصري غير إنساني, قال شاعر آخر في جريدة "دافار":
"ليل الألمان طويل, ونور عمرهم ضئيل
فنحن خالقوا المانيا, بيد حديدية فتية
ونحن قادرون على صنع نعشها, بلا اعتراض
أرض المانيا طوع يدنا, وروحها ترتعد
بعد الجبروت كأس ستجرعه مرارا" (12)
ويتكرر تبرير العنف والاغتصاب مرارا, فيقول الشاعر "بياليك":
لا يقيم صداقات فارثه الألم
والقلب يضمر العواصف
والعاصفة دم" (13)
لقد تعدى "البطل" الصهيوني, التفاخر بما هو عليه من باطل, وتبريرات للعنف والاضطهاد, إلى المزيد من الدعوة إلى الظلم والعنف بعامة, يقول شاعرهم متفاخرا بـ "القتل", مستمتعا بـ "الدم", سعيدا بـ "الحرب":
"أرى العيون الميتة الصامتة
أرى حكمة الدولة
حكمة الحرب في أفواه المجانين
الحساب سنجريه فيما بعد
أما الآن فأنا القاتل"
"لو أنهم تلاميذ مجتهدون
لكانوا استخدموا الدبابة من مسافة قريبة
ودمروا البيوت والشوارع ولم يتركوا أحدا
وبهذا يكونون قد حافظوا على طهارة السلاح" (14)
"اعتمر الخوذة استعدادا لمسيرة الدم
جائلا بعينين إلى النار الحمقى
امتشاق السيف جزء من آدميته
لرعشة الفرح وإحالة الحرب سعادة" (15)
لعله من غير السابق لأوانه, أن نردد ما ردده "غسان كنفاني", يقول: "لن يكون من المبالغة, أن نسجل هنا, أن الصهيونية الأدبية, سبقت الصهيونية السياسية, وما لبثت أن استولدتها, وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليعلب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نظمت لتخدم هدفا واحدا" (16)
الهوامش:
1- شئون فلسطينية –العدد 47- يوليو 1975 ص15
2- سيكولوجية الإستراتيجية الصهيونية ومفهوم إسرائيل للسلام- ص117
3- الحركات الهدامة, ص187
4- العنف والسلام, ص13
5- شخصية العربي في الأدب العبري, ص10
6- الأدب الصهيوني الحديث بين الإرث والواقع, ص36
7- المرجع السابق ص40
8- في الأدب الصهيوني ص40
9- المرجع نفسه ص45
10- التربية الصهيونية ص49
11- هآرتس, قصيدة "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة"- "أكور" في 2-7-1982
12- التربية الصهيونية, ص64
13- المرجع السابق ص46
14- الأدب الصهيوني الحديث, ص73
15- قصيدة نشرتها جريدة "معاريف" في 10-5-1978
16- في الأدب الصهيوني ص46
في عام 1882م بدأت الهجرة الأولى, حتى بلغ عددهم خمسين إلفا في عام 1989م. في عام 1907م بدأت الهجرة الثانية التي أضافت حوالي خمسين ألفا أخرى, بينما بدأت الهجرة الثالثة في 1922م, وبلغ عددهم مائة وخمسة وستين ألفا عام 1930م.
منذ التاريخ الأخير بدأ يتبلور اتجاه ثقافي عبري, مواز إلى الاتجاه النشط في الاتحاد السوفيتي, أو الذي كان كذلك قبل الثورة البلشفية.. وقد استمر حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
لم يكن الأديب العبري خلال الفترة المشار إليها متعايشا مع الواقع الجديد في فلسطين, وهو ما عبر عنه الناقد اليهودي "شاكيد جرشون" بقوله: "لقد مضى على وجود جسدي في فلسطين عشر سنوات, ولكن روحي مازالت هائمة في المنفى. إننى لم آت بعد لفلسطين, بل مازلت في الطريق إليها", وهو المسجل في كتاب "في فلسطين والشتات- الجزء الثاني- عام 1983 ص28)
وظل أدب تلك الفترة خاضعا لأدب المرحلة السابقة أو "أدب الهسكالاه" أو "أدب عصر التنوير اليهودي في شرق أوروبا".. أطلقوا عليه "الأدب العبري الفلسطيني". وهو ما تميز بالخصائص التالية:
- وصف الطبيعة وأنماط البشر, والفلسطيني منها, انحصر وصف الفلسطيني على أنه البدوي أو الفلاح, من أدباء المرحلة "موشيه سميلانسكى" أو "الخواجة موسى" (1874-1953)
- الأدب الطليعي, وهو المتهم بوصف الصراع بين المستوطنين والفلسطينيين أصحاب الأرض, أطلق عليهم لقب الرواد, منهم "يهودا بورلا (1886- 1968)
- القصص الريبورتاجية, وهى التي ركنت إلى وصف الصراع ورصده, مع الطبيعة والعربي. كما رصدت بداية الإحساس بالغربة, مع قص الأساطير ذات الطابع الديني والرومانسي, منهم "يوسف حييم" (18881- 1921), و"يوسف عجنون" (1970).
فلما كانت الهجرة الثالثة وما بعدها (خصوصا من المانيا منذ 1929م), انشغل الأدباء برؤية الواقع الفلسطينى الجديد الناشئ عن الصراع بين الصهاينة والعرب في الفترة (1920-1921م).. النزاع حول حائط المبكى في 1929م.. ثم أحداث ثورة 1936حتى 1939م.
خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات, عبر جيل "البالماخ" أو "جيل سرايا الصاعقة", حيث شارك عدد من الأدباء في أعمال عسكرية.. ليأتي بعدهم "جيل الدولة" أو "الموجة الجديد".. وهم أدباء التعبير العبري بعد إعلان دولتهم في 1948م.
وهناك رؤية أخرى في دراسة وقسمة الأدب العبري المعاصر.. بالنظر بداية إلى الإنتاج الأدبي لمواليد فلسطين من الأدباء أبناء المهاجرين إلى فلسطين.
بظهور "يزهار سميلانسكي" أو "ساميخ يزهار" وهو أيضا "س. يزهار" الذي ولد في فلسطين عام 1916م, عن أبوين يهود هاجرا إلى فلسطين من قبل. تميز أدب "س. يزهار" وقد قالوا عنه أنه صاحب إعجاز لغوي غير عادي في التعبير باللغة العبرية.
لعل مجمل ملامح هذا الجيل من الأدباء العبريين:
أنهم البناء الأول للهيكل الثقافي الجديد.. منهم "س. يزهار", "يجال موسينسون", و "موشيه شامير".. عاصر هؤلاء فترات الصدام المباشر مع الفلسطينيين أعوام 1921و 1929 و 1936 حتى 1939, ثم الصدام مع قوات الانتداب البريطاني.. بينما أبناء جيل الهجرات الأولى تعلم بواسطة "الحيدر" أو ما يشبه الكتاب في القرية المصرية قديما, تعلم مواليد فلسطين بمدارس علمانية بالإضافة إلى التعليم الديني.. رواد التهجير يمثلهم (جالوت) أو يهودي الشتات التقليدي, بينما هؤلاء يمثلهم شخصية (الإسرائيلي), وهو نمط للشخصية اليهودية جديد.. منهم تشكلت شخصية (الصبار) الذي شارك في معارك عسكرية, وهو ما أضاف خبرات خاصة ليهودي فلسطين.
أهم ملامحه الأدبية هو إفراز "الأدب المجند" المعبأ بالمفاهيم والقيم الصهيونية المتعالية المثالية, والعنصرية المتعصبة.
أما وقد أعلنت دولتهم في عام 1948م, فشعر الأديب العبري بالورطة النفسية.. حيث الحديث بلغة الـ "نحن" وغلبة العام على الخاص, وبالمصالح العامة قبل الخاصة.. وإلى هدف تم تحقيقه.. فكانت مشاعر الغربة والاغتراب, ونمط أدبي جديد.
ملامح عامة..
لقد عبرت الأيديولوجية الصهيونية عن جملة أفكار مترابطة ونابعة من جملة معتقدات وأساطير وأحداث تاريخية , بحيث أصبح وعي الملايين من العامة أو الخاصة, من اليهود ومن غير اليهود عاجزون عن التميز بين الحقيقي والخيالي, بين ما هو صحيح وما هو مزيف تاريخيا (1).
كما أن "الصهيونية " تدعي أنها تعبر عن يهود العالم, وبالتالي يدين لها بالولاء كل يهودي, ومن يرفض التفسيرات القومية للديانة اليهودية (باعتبار اليهودية ذات مفهوم قومي), يتهم بالخيانة. وهو ما كان مع "المجلس الأمريكي لليهود" الذي اتهم من قبل الحركة الصهيونية بالتنكر للدين اليهودي, وخيانة أصولها ومحاباة العرب وتأييد قضاياهم (2)
تنحصر الأفكار الرئيسية للصهيونية في عدد من المقولات: اليهود هم شعب الله المختار – اليهود هم شعب ذو مصير تاريخي وسمات خاصة لا تتصف بها الشعوب الأخرى – كل يهودي ينتمي إلى الأمة اليهودية ويجب على اليهود أن يطمحوا للعودة إلى موطنهم القديم فلسطين.
وضح تداخل الفكر الصهيوني مع الدين اليهودي, وقد رفع "هرتزل" الراية بمقولة شهيرة له, أن الغاية تبرر الوسيلة.
انتبه الساسة وأصحاب الرأي منذ بدايات الدعوة الصهيونية, إلى أهمية توظيف الأدب (الأدب العبري) من أجل تحقيق جملة الأهداف السياسية, ثم بات الأدب وسيلة تحت قبضة السلطة الحاكمة بعد إعلان دولتهم في 1948م. تلك العلاقة المتداخلة بين الصهيونية والأدب, وبين السلطة والكاتب (الأديب), عبرت عن نفسها في الآتي: (3)
1- الأدب العبري في إسرائيل يواكب أهداف السلطة, وهو أداة في يدها لتحريك الجماهير اليهودية, وهو أدب يحمل سمات الصنعة (أحيانا), بحيث أصبح الأدباء العبريون أبواق للسلطة الحاكمة, ولما تمليه الصهيونية, وأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة. (4)
2- الأدب يخدم ما يسمى "بالقومية اليهودية", وارتباطها بفلسطين أرضا وتاريخا. وفقا للمبادئ التي قام قادة الحركة الصهيونية يخوضون على أساسها حملاتهم السياسية لتحقيق الأهداف الصهيونية.(5)
لقد أثمرت توجهات الصهيونية تلك في الأدب العبري, بتلك النظرة المتعالية نحو "الآخر" عامة, و "العربي" خاصة:
تقول الشاعرة "أنا جرينو" في إحدى القصائد التي تتعالى فيها على "الآخر":
"قالت لي أمي بأني
ابنة لشعب غنى بالأسفار.. والأغيار جهلة
حدثتني أن أكون بالمقدمة
لأني يهودية
قالت أمي "اننى ابنة شعب لا يقبل الضياع
واجبي مواصلة الدرب.. درب أبي
لمواجهة الأغيار الأعداء
ولو كانوا كل العالم" (6)
وما كانت لتلك النظرة إلى الآخر من وسيلة, إلا العنف, حتى وإن كان القتل والاغتصاب, وهو ما عبر عنه الشاعر "جبرائيل اليشع" قائلا:
"لا تطلب الغفران كقط ساعة النزهة
هذا زمن الذئاب المغتصبة
لا التنسك ولا الصومعة" (7)
وقد حاول بعض الأدباء العبريين تبرير ذلك العنف, بأن ما تعرض له اليهودي على يد النازي في ألمانيا, هو السبب, وهو ما قال به القاص الإسرائيلي "فشنر" في إحدى قصصه القصيرة.
أن اليهودي الموجوع بموت حبيبته "سارة" على يد النازي, يقتل "العربي" ثأرا من النازي!, سرد في قصته "الينبوع" يقول: "كان متعبا, ولكنه أحس جسده خفيفا بصورة لا تصدق, واستدار نحو الدبابتين, هذا من أجلك يا سارة, من أجلك".. حيث تابع معركته مع العربي. (
وهو المعنى نفسه الذي كرره الكاتب "فشنر" في روايته "لصوص الليل": يمارس الإرهاب في فلسطين , لماذا؟ لأن "دينا" قتلت في ألمانيا" (9)
هكذا, حتى أصبح قاتل العربي بطلا, وصفة البطولة ارتبطت بقتل العربي! ففي قصيدة للشاعر الاسرائيلى "أيوناثان غيفن" بعنوان "عدت من إجازتي", يقول الشاعر:
"يجب عليك أن تقتل
حين تعود وتقص على والدتك
أشياء كثيرة وجميلة
أشياء جميلة
لماذا القتال؟!
لماذا هذا السلوك من العرب؟!" (10)
قد تخبو نغمة العنف حينا, مثلما تلاحظ بعد معارك أكتوبر 73م, إلا أنه سرعان ما يعود, ويطفو على سطح الصفحات الأدبية بالصحف والكتب الأدبية. وهو ما تلاحظ عام 1982م أثناء معارك لبنان. فقد نشر الملحق الأدبي لجريدة "هآرتس" الإسرائيلية قصيدة بعنوان "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة" لشاعر يدعى "أكور" في 2-7-1982م يقول:
"لو كنت قائدا لمنطقة بيروت
المحاصرة والمختنقة لصرخت
في وجه كل أولئك الذين يطالبون
إعادة المياه
ويصرخون ويتألمون ويطالبون
إعادة الدواء والطعام
إلى المدينة المحاصرة"
يتابع الشاعر, حيث يطالب بأكثر من ذلك:
"لو كنت قائدا لجيشنا العظيم
لزرعت الموت والدمار
في كل المزارع والشوارع
في كل المساجد والكنائس" (11)
إنها الدعوة إلى "العنف" , إنها ملامح أدب عنصري غير إنساني, قال شاعر آخر في جريدة "دافار":
"ليل الألمان طويل, ونور عمرهم ضئيل
فنحن خالقوا المانيا, بيد حديدية فتية
ونحن قادرون على صنع نعشها, بلا اعتراض
أرض المانيا طوع يدنا, وروحها ترتعد
بعد الجبروت كأس ستجرعه مرارا" (12)
ويتكرر تبرير العنف والاغتصاب مرارا, فيقول الشاعر "بياليك":
لا يقيم صداقات فارثه الألم
والقلب يضمر العواصف
والعاصفة دم" (13)
لقد تعدى "البطل" الصهيوني, التفاخر بما هو عليه من باطل, وتبريرات للعنف والاضطهاد, إلى المزيد من الدعوة إلى الظلم والعنف بعامة, يقول شاعرهم متفاخرا بـ "القتل", مستمتعا بـ "الدم", سعيدا بـ "الحرب":
"أرى العيون الميتة الصامتة
أرى حكمة الدولة
حكمة الحرب في أفواه المجانين
الحساب سنجريه فيما بعد
أما الآن فأنا القاتل"
"لو أنهم تلاميذ مجتهدون
لكانوا استخدموا الدبابة من مسافة قريبة
ودمروا البيوت والشوارع ولم يتركوا أحدا
وبهذا يكونون قد حافظوا على طهارة السلاح" (14)
"اعتمر الخوذة استعدادا لمسيرة الدم
جائلا بعينين إلى النار الحمقى
امتشاق السيف جزء من آدميته
لرعشة الفرح وإحالة الحرب سعادة" (15)
لعله من غير السابق لأوانه, أن نردد ما ردده "غسان كنفاني", يقول: "لن يكون من المبالغة, أن نسجل هنا, أن الصهيونية الأدبية, سبقت الصهيونية السياسية, وما لبثت أن استولدتها, وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليعلب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نظمت لتخدم هدفا واحدا" (16)
الهوامش:
1- شئون فلسطينية –العدد 47- يوليو 1975 ص15
2- سيكولوجية الإستراتيجية الصهيونية ومفهوم إسرائيل للسلام- ص117
3- الحركات الهدامة, ص187
4- العنف والسلام, ص13
5- شخصية العربي في الأدب العبري, ص10
6- الأدب الصهيوني الحديث بين الإرث والواقع, ص36
7- المرجع السابق ص40
8- في الأدب الصهيوني ص40
9- المرجع نفسه ص45
10- التربية الصهيونية ص49
11- هآرتس, قصيدة "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة"- "أكور" في 2-7-1982
12- التربية الصهيونية, ص64
13- المرجع السابق ص46
14- الأدب الصهيوني الحديث, ص73
15- قصيدة نشرتها جريدة "معاريف" في 10-5-1978
16- في الأدب الصهيوني ص46