هى الجرحُ الذى لم يكف نزفُه منذ خمسين عاماً ، وهى طيلة تاريخنا: المعيار الدال على حال دول الإسلام، والترمومتر الذى لايخطئ فى الإشارة إلى عِزَّة المسلمين أو ذُلِّهم . ففى اللحظة التاريخية التى تكون القدس فيها آمنة عامرة مزدهرة ، يكون حال المسلمين كذلك .. وإن كانت فى لحظةٍ أخرى من التاريخ: فزعةً مضطربةً سلبيةً ، فالمسلمون آنذاك : فُزَّعٌ ، مضطربون، مسلوبون. كما هو حالهم اليوم .
وقد عُرفت القدس ببيت المقدس وبالبيت المقدَّس .. وكلها تسمياتٌ دالةٌ فى اللغة على التقدُّس أى: التطهر . فالبيت المقدَّس بحسب ما يذهب إليه المفسرون، هو : المطهر الذى يُتطهَّر به من الذنوب .. ونحن نرى اليوم ، فى كل ساعة، شباباً يتطهرون من ذنوبنا بنزف دمهم ، ويتخلَّصون من زماننا الردئ بخلاص أرواحهم المرفرفة كالحمام أمام بنادق اليهود .
وتاريخ القدس قديمٌ ، وهو محل حكايات وخرافات كثيرة وأوهام، يسعى اليهود اليوم لإحيائها كى يصنعوا لأنفسهم تاريخاً من قطع الفخار، ويبنوا لأنفسهم بيتاً من غبارِ القرون .. وما نحن بأبرياء مما يفعلون ، بل نحن أعوانهم فى ذلك. فقد أَعْلَنَّاهم فى العالمين أهل كتاب فى اليوم الذى كانوا فيه هامشاً مطموراً فى سراديب العالم ، وأدخلنا خرافاتهم فى ثقافتنا معترفين بقسمٍ خطيرٍ فى تراثنا اسمه الإسرائيليات وكأننا إنسان ينامُ كل ليلةٍ وفى ثيابه حية لم يفكر يوماً بطردها من بين طيات ملبسه .. ثم احتوينا الجماعات اليهودية المتشرذمة فى اليمن ومصر والمغرب والأندلس، وجعلنا لهم مفكرين وفلاسفة ومنظرين من أمثال: موسى بن ميمون ، ابن كمونة ، سعيد بن يوسف الفيومى - الذى يسمونه هم : سعديا جاؤون -فكان هؤلاء يسطون على النسق الفكرى لعلماء الإسلام وفقهائهم ، ويفصِّلون على منواله ثوباً فكرياً يهودياً ، صار اليوم حلية فى أعناق أحفادهم .. وسَكَتْنا طيلة التاريخ عن سخافاتهم ، فعادوا اليوم ليردوا الجميل .. وتَصَاممْنا فى الأمس القريب عن هسيس دولتهم ، فأخرسونا اليوم بضجيجهم العالى .. وتراخينا يوم أقاموا لهم دولة، فارتخت دِوَلُنا لما انتصبت دولتهم كالشوكة بين ظهرانينا .. واليوم: نواجههم بقصائد الهجاء ، ويواجهوننا بالخطط بعيدة المدى .. نشجب ويقتلون .. نتشظَّى ويمرحون .. نتأسَّى بالأناشيد والأغنيات الحزينة ، ويبنون هم وادياً للسيلكون وقنابل ذرية .
والقدس اليوم : كما نراها على الشاشات .. ساحةُ جزارٍ يعلِّق اللحم الفلسطينى، ويمسح دكانه كل ساعة بشرف العرب . القدس اليوم: حانة يترنَّح فيها سكارى اليهود بنشوة البطش والمفاوضات .. ولاتزال فينا العيون الزائغة المترقبة نتائج اللقاءات والانتخابات والاجتماعات . وكما قال الشاعر :
قد يسلم الشرفُ المأبون فى زمن
دَيُّوثه الصحف
ونعود للقرآن الكريم ، فنجد للقدس إشارات لاتحصى .. يقول المفسرون عن قوله تعالى {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين} هى بيت المقدس .. وقوله تعالى {وواعدنا كم جانب الطور الأيمن} أى بيت المقدس .. وقوله تعالى {وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} يعنى بيت المقدس .. وقوله {سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} فى بيت المقدس .. ولاتنتهى الإشارات القرآنية ، ناهيك عن الأحاديث النبوية التى أفاضت فى فضل بيت المقدس -مع أن المسلمين اليوم، أغلبهم يفضِّل واشنطن ولندن - ناهيك عن شهادات المشايخ وأعلام الرجال فى تاريخ الإسلام، ناهيك عن أكثر من خمسين كتاباً فى تراثنا القديم تتناول فضل الأقصى وفضائل بيت المقدس .
غير أن ما يحدث للقدس اليوم ، حدث فى زماننا السابق ماهو أشنع منه .. فمن ذلك ما يرويه المؤرخون من أن المدينة حين حاصرها الصليبيون سنة 492 هجرية ، ودخلوها عنوة فى شهر شعبان من ذلك العام .. احتمى المسلمون فى الجامع الأقصى ، فدخل عليهم الصليبيون وقتلوا -فى المسجد- ما يزيد على سبعين ألف إنسان . ثم خلعوا قناديل المسجد ، وجعلوا الصخرة حظيرة للخنازير ، وساحة المسجد اصطبلاً للخيل .
دام ذلك واحد وتسعون عاماً ، بعدها تحررت القدس وعادت للمسلمين سنة 583 هجرية . وبعدها بقرابة خمسين سنة ، سَلَّم الحاكم المسلم المسمى -وياللعار- بالكامل ! القدس إلى الصليبيين .. سلَّمها لهم طواعيةً بعد مفاوضات ومكاتبات ورشاوى ووعود كتلك الوعود المسماة اليوم بالإنتخابية .
غير أن المدينة مالبثت أن عادت إلى حضن الإسلام ، وظلت قروناً طويلة فى قلب دولة الإسلام .. حتى انتزعها اليهودُ وأسكنوا فيها الدود المسمى بالمستوطنات وللحديث بقية .