هذه ليست دراسة أو مقال أو تحليل، بل تسجيل للحظات شخصية عشتها، أوثق فيها رحلتي الأولى لأرض فلسطين بالتفصيل ربما الممل، بعد أكثر من أسبوع على عودتي لم أستطع خلالها كتابة شيء، رغم الطلبات المتكررة، فكلما هممت بالكتابة غالبتني دموعي، لكني رغم ذلك أكتب اليوم، وجب التنويه حتى يتوقف من لا يرغب في متابعة قصة فردية، قد لا تعنيه من قريب أو بعيد، وقد يجد آخرون فيها قصتهم وتجربتهم وحلمهم.
غزة...أرض العزة
الجزء الأول.....إليها
قبل أكثر من ثلاثين سنة وفي المراحل الدراسية الأساسية الأولى، وتحديداً في العام 1976، وقفت لساعات طوال للحصول على تذكرة لمشاهدة شريط الرسالة لمصطفى العقاد، وبالفعل حصلت على التذكرة ودخلت قاعة العرض وتنبهت حواسي جميعها، شعرت بعزة ديننا الاسلامي، وتفاعلت مع الأحداث التي كنا نقرأ عنها أو ندرسها ونحفظها عن ظهر قلب، لكن مشهد معيّن في ذلك الشريط أخذني بعيداً عن أحداثه الأصلية، مشهد جعلني أتخيل نفسي جزء منه لكن في عصرنا هذا، مشهد ما زال حتى اللحظة يراودني في اليقظة والمنام، تدمع عيناي كلما تذكرته، وأبدأ بالدعاء وقول "يا رب – يا رب".
المشهد الذي أعنيه هو مشهد فتح مكة آخر الشريط، آلاف بثيابهم البيضاء وعلى قرع الطبول يدخلون مكة مرددين " الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، هل تذكرونه؟ في ذلك اليوم من العام حلّق خيالي ليوم قادم لا محالة، يوم ندخل القدس المحررة مكبرين داعين شاكرين للمولى عز وجل مستذكرينً الآية الكريمة:" إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا"، تخيلت نفسي أحد هؤلاء في مشهد مشابه لفتح مكة، فقلت بعفوية الطالب صغير السن ودموعي تنهمر "يا رب"، وما زلت أرددها وكأني ذات الطالب صغير السن الذي يرجو أن تتحقق أمنيته يوماً.
المشهد الذي لم يفارق مخيلتي لحظة، كان حاضراً وبقوة لحظة اتخاذ القرار بالسفر ودخول جزء عزيز من فلسطيننا الحبيبة لأول مرة في حياتي، وسط مشاعر يصعب وصفها، بل يستحيل، انها المرة الأولى، حلم يتحقق جزء منه على جزء من الوطن، أخيراً، ما أجمل هذا الشعور، ليته يتحقق، الأنباء متضاربة حول المعبر فقد تأخرت، ربما لن يتحقق، لا بأس النية عٌقدت، وبقي توفيق رب العباد.
في العام 2005 وفي أعقاب اندحار الاحتلال من قطاع غزة فُتح المعبر ليومين فقط، وحينها كانت الفوضى والفلتان تضرب أطنابها، ورؤوس الفتنة تعيث في الأرض فساداً، والتهديدات المباشرة بالقتل تصدر عن التيار الدحلاني البائد، وتصلني اما عبر الرسائل أو من خلال صفحات المواقع، يومها ضاعت فرصة زيارة قطاع غزة وبقيت حسرة وغصة في النفس، فقد عاهدت نفسي أن أدخل أرض فلسطين في أول فرصة تسنح، لكن في غير وجود المحتل، وبصراحة أكبر وفي غير وجود أذناب ووكلاء المحتل.
في يوم 23 من شهر يناير/كانون الثاني 2008 كسر أبناء فلسطين في قطاع غزة حصارهم، ولو جزئياً، ودخلوا أرض الكنانة مصر بمئات الألوف، ومقابل ذلك دخل عشرات الألوف من مصر إلى غزة، وتتابعت الأخبار والأنباء.
توقعت مخطئاً أن تكون هذه المرة كسابقتها، أي يومين أو ثلاثة، ومن ثم توصد الأبواب والمعابر من جديد، كنت خلال هذه الأيام على سفر، وكنت أتابع: مائتي ألف، ثلاثة، أربعة، سبعمائة ألف ويزيد، المعبر ما زال مفتوحاً، مصر تفتح أبوابها وأحضانها لأبناء شعبنا، يا الله هل لي نصيب هذه المرة؟ هل أصبح الحلم قريب المنال؟ من جديد عاودني مشهد فتح مكة، ومرت أيام السفر دهراً كاملاً، حتى عدت أدراجي فجر يوم الثلاثاء 29/01/2008، يحذوني الأمل في التوجه إلى غزة، لكن الأنباء بدأت تتناقل الاقفال التدريجي والاجراءات الأمنية، وغيرها، والصورة باتت ضبابية.
لأن الساعة كانت قد قاربت الواحدة والنصف صباحاً، اكتفيت بارسال رسالة هاتفية قصيرة لعائلة جمعتنا بها الغربة في هذه الديار، وبيننا من العشرة والمودة العائلية الكثير، تجرأت وارسلت وبشكل مختصر: الرجاء الاتصال بي عند استلام هذه الرسالة، كان القصد معرفة آخر تطورات الأوضاع عند المعبر، فأهل أصدقائنا يسكنون رفح، وهمعلى اتصال دائم بهم، وفي ذات الوقت جُلت عبر المواقع والنشرات الاخبارية أبحث عن تأكيد من هنا أو هناك بأن المعبر أو بوابة صلاح الدين لا زالت مفتوحة، لم أصل لنتيجة تٌذكر.
بعد دقائق بسيطة رن هاتف المنزل، كانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً، كان المتصل -أو المتصلة- من أرسلت لهم الرسالة القصيرة، للصدفة البحتة لم يكونوا قد أخلدوا للنوم بعد، بشكل مباشر سألت: ما هي أخبار المعبر؟ كان الرد سأتأكد في الصباح، لكن هل أنت جاد في نية السفر؟ كان الرد حاسماً: كل الجد لكن عليّ أن أتأكد من بعض الأمور: الحجز والتذاكر، احتمالات الوصول وغيرها، فقد مر أسبوع على الدخول الأول والأنباء متضاربة.
كانت نصيحة زميلتنا ذهبية لا توصف، ولا تقدر بثمن، قالت: استخر ونام واتركها على رب العباد، ما أروعها من نصيحة، وما أجملها من كلمات تدخل الطمأنينة على النفس، لكن قبل أن أفعل تأكدت أن هناك أماكن على رحلة القاهرة بعد ساعات، ركعتي الاستخارة، الدعاء في جوف الليل، ثم أخلدت للنوم، أو هكذا ظننت، فعقلي كان منشغلاً بالرحلة المرجوة، وكانت أولى علامات الاستخارة حلم تلك الليلة وأنا أرى نفسي في غزة الأبية!
الثامنة والنصف صباحاً جرس الهاتف يرن مجدداً، انها أخبار مشجعة من رفح، البوابة لا زالت مفتوحة والناس يدخلون ويخرجون، وأعادت أختنا المتصلة السؤال: هل ستذهب؟ قلت أعطني نصف ساعة حتى أصحو تماماً ، الحرص والتأكد واجب، دخلت شبكة الانترنت آملاً أن أجد من في بالي على الخط، لكنه لم يظهر منذ أشهر، لكن لا بأس لأحاول، سبحان الله ها هو أمامي على الخط، تحية وسلام يا دكتور، الموضوع كذا وكذا ما رأيك، وبعد السؤال والاستفسار كان الرد اتكل على الله الطريق لا يزال مفتوحاً، سبحان الله كيف بدأت الأمور تسير بسهولة ويُسر بعد الاستخارة.
طمع الانسان لا حدود له، لما لا اتصل بشخص آخر من أهل غزة؟ المشكلة أنه عادة لا يجيب، والطائرة التي أنوي السفر عليها تغادر بعد ساعات معدودة ولم أجهز أغراضي بعد، اتصلت على كل حال: رنة والثانية واذا به يرد، لأول مرة يرد مباشرة، سبحانك ربي، سلام وتحية وكررت الاستفسار فجاء الرد: المعبر لن يغلق قبل عدة ايام بحسب الأنباء والوقائع، اتكل على الله.
عزمت وتوكلت وعدت لجهاز الكمبيوتر لحجز التذكرة ودفع ثمنها، كانت الساعة العاشرة صباحاً تقريباً، وموعد الطائرة في الرابعة والنصف مساء، كنت قد راجعت الحجز قبل ساعات وتأكدت من توفر أماكن على متن الطائرة، لكن كانت المفاجأة التي يشهد الله أنها تحدث لي لأول مرة رغم كثرة حلي وترحالي، سعر التذكرة انخفض رغم أن المعتاد أن يزداد وبشكل كبير كلما اقترب موعد الرحلة، لم تتبق لي حجة، الأمر واضح، قضي الأمر، اتكلت على المولى عز وجل وحجزت وأخبرت زوجتي التي كانت ولا زالت السند والدعم، وهي الصابرة المصابرة علي، ورغم أنه لم يمض على عودتي للبيت سوى ساعات معدودات، قلت لها أدعو لي سأغادر الآن في طريقي للسفارة المصرية للحصول على التأشيرة ومن ثم التوجه للمطار إلى غزة، وكعادتها دعت لي بالتوفيق والسداد، بارك الله فيها وجزاها كل خير.
لم أنس زميلتنا العزيزة، اتصلت وقلت لها رحلتي بعد ساعات، أنا في طريقي للسفارة، ألتقيك ان شئت هناك لحمل ما تريدين لأهلك في رفح، بعد ساعة ونصف كنت على باب السفارة، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار، وبمساعدة صديقة العائلة وخلال دقائق كانت التأشيرة قد ختمت على جواز السفر، سرعة خارقة وتساهيل غير طبيعية، سبحانك ربي ما أعظمك.
خبر وصلني وأنا على باب السفارة، أحد من غادروا بالأمس لدخول غزة دخل بالفعل قبل دقائق، رائع لاتصل به، رن هاتفه وفتحت الرسالة الصوتية وتركت له رسالة مستفسراً عن رحلته، الحقيقة لم أتوقع أن يرد علي وهو الواصل لتوه بعد رحلة طويلة، لكن ومن سلسلة التساهيل الربانية اتصل بعد دقائق، ايوة أخي الحمد لله على السلامة كيف الأمور، فيرد صعبة يا أخي لكن الطريق ما زال مفتوحاً، هذا فقط ما أردت سماعه، يعطيك العافية نشوفك على خير، السلام عليكم.
من المفترض أن أكون في المطار في موعد أقصاه ساعتين، بدأت الاتصال عبر الهاتف: أخي الحبيب أرجوك أن تدفع تعرفة دخول المدينة حتى لا أُغرّم، أخ عزيز آخر هل من الممكن أن توصلني للمطار أنا في طريقي إلى غزة، هل أنت جاد؟ نعم كل الجدية، وكان كذلك.
في طريقي للمطار صحبة الأخ العزيز مررنا على مقبرة المسلمين غرب لندن، وقرأنا الفاتحة على روح والدته وعلى أموات المسلمين، مشوار هام في هذه اللحظات ليتذكر الإنسان ويخشع، وليتعظ ويسمع.
رحلة الطائرة كانت طويلة وطويلة جداً، أخذتني الأفكار ورحلت في عالم آخر لا يقل عن حقيقة أني معلق بين السماء والأرض، تارة ابتسم وأشعر بالسعادة، وتارة تدمع عيناي من عظة الأمر الذي انتظرته عقوداً من الزمن، وخوفاً من عدم الوصول لأسباب تتعلق بالطريق والمعبر. حطت الطائرة في مطار القاهرة في موعدها تماماً، وبعد اتمام اجراءات الدخول كنت خارج قاعة المطار في أقل من 30 دقيقة، رقم قياسي آخر في مسلسل التساهيل، لك الشكر يا رب.
أبو مصطفى الشاب المصري الأسمر ينادي علي في زحمة المطار أبو عمر، لقد كان في انتظاري بالمطار صحبة أخيه، استبشرت عند رؤيته بوجهه الباسم وطبعه الهادئ، وكعادة أهل مصر وكرمهم وحسن ضيافتهم، ورغم إلحاحي بالتوجه لموقف سيارات العريش، أصروا أن الوقت غير مناسب، والطريق "بتتقفل" و"ما فيش سيارات دلوقتي"، و"الصباح رباح"، رضخت لهما ورافقتهما إلى منزلهما في القاهرة، ورغم أن عقلي قد تجمد عند نقطة واحدة: التوجه إلى غزة، إلا أنني وجدت نفسي محاطاً بكرم عائلة أبو مصطفى، وتسابقها للترحاب والسؤال وإكرام الضيف، زادهم الله من رزقه ونعيمه.
استطعت أن أنام لثلاث ساعات ثم استيقظت، "بينا" يا أبو مصطفى، على بركة الله اتجهنا نحو موقف المرج الجديدة، وكانت الساعة قد قاربت السابعة صباحاً، ولم نجد في موقف العريش إلا سيارة واحدة فقط، سلام عليكم يا عم رايح على فين؟ أجاب طالع على رفح وناقصني راكب! سبحان الله على رفح مباشرة دون المرور على العريش وباقي مكان راكب؟ كانت هذه علامة أخرى بعد الاستخارة الليلة الماضية، ركبت وانطلقت السيارة، وانطلقت معها مشاعري وأنا اقترب من اللحظة المنتظرة.
السائق أخبرنا أن الحواجز على الطريق تملؤه، وأنه غير مسؤول إن طُلب منا النزول والعودة، وأن أجرة النقل لا علاقة لها بذلك، اتكل على الله ياعم، وكان ما توقع، فعند أول حاجز عند مدخل مدينة الإسماعيلية طٌلب من سيدة وابنتيها النزول من السيارة وإنزال أمتعتهن والعودة أدراجهن، كان ذلك لأنهن يحملن وثائق سفر خاصة باللاجئين الفلسطينيين، ورغم أن لديهن إقامات في مصر، إلا أن ذلك لم يشفع لهن، الأوامر صارمة بعدم السماح للفلسطيني بالمرور، ذرفن الدموع فالأم كانت على موعد مع أبناء خمسة لها لم تلتق بهم منذ سنوات، ومعها كانت البنات على أمل لقاء إخوتهن، ووجدتني أشعر بحزن وغضب شديدين، ما ذنبهن وأي جريمة ارتكبن؟ هن أحق مني بالمرور للقاء الأبناء والإخوة، وما الفرق بيني وبينهن سوى أوراق تقول هذه وثيقة، وذلك جواز سفر أجنبي؟ يا الله كم هو محزن حالنا، ترى كم من الزمن نحتاج ليتعامل معنا أشقاؤنا بما نستحق؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
حاجز وراء حاجز، ونقطة تفتيش وراء أخرى، توقفت عن إحصائها بعد الحاجز العشرين، وعواصف رملية شديدة جعلت الرؤية صعبة، ثم أمطار غزيرة ورياح قوية، مررنا بالعريش والشيخ زويد وكانت مقفرة بمحلاتها المغلقة بحسب الأوامر، وأخيراً وصلنا أطراف مدينة رفح المصرية، أربعة حواجز على المداخل ثم تحويل إجباري للطريق أدخلنا في مناطق غارقة في مياه الأمطار وصولاً إلى الجندي المجهول، هانت "راح الكثير وما بقي إلا القليل"، لكن القليل هذا استغرق أكثر من ساعة ونصف من الجندي المجهول إلى أطراف بوابة صلاح الدين بسبب شدة الازدحام.
عند بنك الاسكندرية أنزلنا سائق السيارة وأشار بيده: من هناك البوابة، حملت أمتعتي، بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلت، سرت مع السائرين والأمطار تهطل بغزارة شديدة، وأقدامنا بل أرجلنا تغوص في المياه والطين، متجهين إلى بوابة صلاح الدين، لاحت في آخر الشارع أجزاء السور الحديدي المثني الشهير، لحظات لا أعرف كيف مرت، لكن أعرف أنني في هذه اللحظات وأنا استذكرها يغالبني دمعي من جديد، كومة من الأحجار وضعها الناس لتسهيل المرور، قفزة من هنا وأخرى من هناك، أصوات تتعالى "ديروا بالكو لتتزحلقو"، اختلطت الدموع بمياه المطر، وأخيراً......... الحمد لله رب العالمين.
د.ابراهيم حمامي
غزة...أرض العزة
الجزء الأول.....إليها
قبل أكثر من ثلاثين سنة وفي المراحل الدراسية الأساسية الأولى، وتحديداً في العام 1976، وقفت لساعات طوال للحصول على تذكرة لمشاهدة شريط الرسالة لمصطفى العقاد، وبالفعل حصلت على التذكرة ودخلت قاعة العرض وتنبهت حواسي جميعها، شعرت بعزة ديننا الاسلامي، وتفاعلت مع الأحداث التي كنا نقرأ عنها أو ندرسها ونحفظها عن ظهر قلب، لكن مشهد معيّن في ذلك الشريط أخذني بعيداً عن أحداثه الأصلية، مشهد جعلني أتخيل نفسي جزء منه لكن في عصرنا هذا، مشهد ما زال حتى اللحظة يراودني في اليقظة والمنام، تدمع عيناي كلما تذكرته، وأبدأ بالدعاء وقول "يا رب – يا رب".
المشهد الذي أعنيه هو مشهد فتح مكة آخر الشريط، آلاف بثيابهم البيضاء وعلى قرع الطبول يدخلون مكة مرددين " الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، هل تذكرونه؟ في ذلك اليوم من العام حلّق خيالي ليوم قادم لا محالة، يوم ندخل القدس المحررة مكبرين داعين شاكرين للمولى عز وجل مستذكرينً الآية الكريمة:" إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا"، تخيلت نفسي أحد هؤلاء في مشهد مشابه لفتح مكة، فقلت بعفوية الطالب صغير السن ودموعي تنهمر "يا رب"، وما زلت أرددها وكأني ذات الطالب صغير السن الذي يرجو أن تتحقق أمنيته يوماً.
المشهد الذي لم يفارق مخيلتي لحظة، كان حاضراً وبقوة لحظة اتخاذ القرار بالسفر ودخول جزء عزيز من فلسطيننا الحبيبة لأول مرة في حياتي، وسط مشاعر يصعب وصفها، بل يستحيل، انها المرة الأولى، حلم يتحقق جزء منه على جزء من الوطن، أخيراً، ما أجمل هذا الشعور، ليته يتحقق، الأنباء متضاربة حول المعبر فقد تأخرت، ربما لن يتحقق، لا بأس النية عٌقدت، وبقي توفيق رب العباد.
في العام 2005 وفي أعقاب اندحار الاحتلال من قطاع غزة فُتح المعبر ليومين فقط، وحينها كانت الفوضى والفلتان تضرب أطنابها، ورؤوس الفتنة تعيث في الأرض فساداً، والتهديدات المباشرة بالقتل تصدر عن التيار الدحلاني البائد، وتصلني اما عبر الرسائل أو من خلال صفحات المواقع، يومها ضاعت فرصة زيارة قطاع غزة وبقيت حسرة وغصة في النفس، فقد عاهدت نفسي أن أدخل أرض فلسطين في أول فرصة تسنح، لكن في غير وجود المحتل، وبصراحة أكبر وفي غير وجود أذناب ووكلاء المحتل.
في يوم 23 من شهر يناير/كانون الثاني 2008 كسر أبناء فلسطين في قطاع غزة حصارهم، ولو جزئياً، ودخلوا أرض الكنانة مصر بمئات الألوف، ومقابل ذلك دخل عشرات الألوف من مصر إلى غزة، وتتابعت الأخبار والأنباء.
توقعت مخطئاً أن تكون هذه المرة كسابقتها، أي يومين أو ثلاثة، ومن ثم توصد الأبواب والمعابر من جديد، كنت خلال هذه الأيام على سفر، وكنت أتابع: مائتي ألف، ثلاثة، أربعة، سبعمائة ألف ويزيد، المعبر ما زال مفتوحاً، مصر تفتح أبوابها وأحضانها لأبناء شعبنا، يا الله هل لي نصيب هذه المرة؟ هل أصبح الحلم قريب المنال؟ من جديد عاودني مشهد فتح مكة، ومرت أيام السفر دهراً كاملاً، حتى عدت أدراجي فجر يوم الثلاثاء 29/01/2008، يحذوني الأمل في التوجه إلى غزة، لكن الأنباء بدأت تتناقل الاقفال التدريجي والاجراءات الأمنية، وغيرها، والصورة باتت ضبابية.
لأن الساعة كانت قد قاربت الواحدة والنصف صباحاً، اكتفيت بارسال رسالة هاتفية قصيرة لعائلة جمعتنا بها الغربة في هذه الديار، وبيننا من العشرة والمودة العائلية الكثير، تجرأت وارسلت وبشكل مختصر: الرجاء الاتصال بي عند استلام هذه الرسالة، كان القصد معرفة آخر تطورات الأوضاع عند المعبر، فأهل أصدقائنا يسكنون رفح، وهمعلى اتصال دائم بهم، وفي ذات الوقت جُلت عبر المواقع والنشرات الاخبارية أبحث عن تأكيد من هنا أو هناك بأن المعبر أو بوابة صلاح الدين لا زالت مفتوحة، لم أصل لنتيجة تٌذكر.
بعد دقائق بسيطة رن هاتف المنزل، كانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً، كان المتصل -أو المتصلة- من أرسلت لهم الرسالة القصيرة، للصدفة البحتة لم يكونوا قد أخلدوا للنوم بعد، بشكل مباشر سألت: ما هي أخبار المعبر؟ كان الرد سأتأكد في الصباح، لكن هل أنت جاد في نية السفر؟ كان الرد حاسماً: كل الجد لكن عليّ أن أتأكد من بعض الأمور: الحجز والتذاكر، احتمالات الوصول وغيرها، فقد مر أسبوع على الدخول الأول والأنباء متضاربة.
كانت نصيحة زميلتنا ذهبية لا توصف، ولا تقدر بثمن، قالت: استخر ونام واتركها على رب العباد، ما أروعها من نصيحة، وما أجملها من كلمات تدخل الطمأنينة على النفس، لكن قبل أن أفعل تأكدت أن هناك أماكن على رحلة القاهرة بعد ساعات، ركعتي الاستخارة، الدعاء في جوف الليل، ثم أخلدت للنوم، أو هكذا ظننت، فعقلي كان منشغلاً بالرحلة المرجوة، وكانت أولى علامات الاستخارة حلم تلك الليلة وأنا أرى نفسي في غزة الأبية!
الثامنة والنصف صباحاً جرس الهاتف يرن مجدداً، انها أخبار مشجعة من رفح، البوابة لا زالت مفتوحة والناس يدخلون ويخرجون، وأعادت أختنا المتصلة السؤال: هل ستذهب؟ قلت أعطني نصف ساعة حتى أصحو تماماً ، الحرص والتأكد واجب، دخلت شبكة الانترنت آملاً أن أجد من في بالي على الخط، لكنه لم يظهر منذ أشهر، لكن لا بأس لأحاول، سبحان الله ها هو أمامي على الخط، تحية وسلام يا دكتور، الموضوع كذا وكذا ما رأيك، وبعد السؤال والاستفسار كان الرد اتكل على الله الطريق لا يزال مفتوحاً، سبحان الله كيف بدأت الأمور تسير بسهولة ويُسر بعد الاستخارة.
طمع الانسان لا حدود له، لما لا اتصل بشخص آخر من أهل غزة؟ المشكلة أنه عادة لا يجيب، والطائرة التي أنوي السفر عليها تغادر بعد ساعات معدودة ولم أجهز أغراضي بعد، اتصلت على كل حال: رنة والثانية واذا به يرد، لأول مرة يرد مباشرة، سبحانك ربي، سلام وتحية وكررت الاستفسار فجاء الرد: المعبر لن يغلق قبل عدة ايام بحسب الأنباء والوقائع، اتكل على الله.
عزمت وتوكلت وعدت لجهاز الكمبيوتر لحجز التذكرة ودفع ثمنها، كانت الساعة العاشرة صباحاً تقريباً، وموعد الطائرة في الرابعة والنصف مساء، كنت قد راجعت الحجز قبل ساعات وتأكدت من توفر أماكن على متن الطائرة، لكن كانت المفاجأة التي يشهد الله أنها تحدث لي لأول مرة رغم كثرة حلي وترحالي، سعر التذكرة انخفض رغم أن المعتاد أن يزداد وبشكل كبير كلما اقترب موعد الرحلة، لم تتبق لي حجة، الأمر واضح، قضي الأمر، اتكلت على المولى عز وجل وحجزت وأخبرت زوجتي التي كانت ولا زالت السند والدعم، وهي الصابرة المصابرة علي، ورغم أنه لم يمض على عودتي للبيت سوى ساعات معدودات، قلت لها أدعو لي سأغادر الآن في طريقي للسفارة المصرية للحصول على التأشيرة ومن ثم التوجه للمطار إلى غزة، وكعادتها دعت لي بالتوفيق والسداد، بارك الله فيها وجزاها كل خير.
لم أنس زميلتنا العزيزة، اتصلت وقلت لها رحلتي بعد ساعات، أنا في طريقي للسفارة، ألتقيك ان شئت هناك لحمل ما تريدين لأهلك في رفح، بعد ساعة ونصف كنت على باب السفارة، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار، وبمساعدة صديقة العائلة وخلال دقائق كانت التأشيرة قد ختمت على جواز السفر، سرعة خارقة وتساهيل غير طبيعية، سبحانك ربي ما أعظمك.
خبر وصلني وأنا على باب السفارة، أحد من غادروا بالأمس لدخول غزة دخل بالفعل قبل دقائق، رائع لاتصل به، رن هاتفه وفتحت الرسالة الصوتية وتركت له رسالة مستفسراً عن رحلته، الحقيقة لم أتوقع أن يرد علي وهو الواصل لتوه بعد رحلة طويلة، لكن ومن سلسلة التساهيل الربانية اتصل بعد دقائق، ايوة أخي الحمد لله على السلامة كيف الأمور، فيرد صعبة يا أخي لكن الطريق ما زال مفتوحاً، هذا فقط ما أردت سماعه، يعطيك العافية نشوفك على خير، السلام عليكم.
من المفترض أن أكون في المطار في موعد أقصاه ساعتين، بدأت الاتصال عبر الهاتف: أخي الحبيب أرجوك أن تدفع تعرفة دخول المدينة حتى لا أُغرّم، أخ عزيز آخر هل من الممكن أن توصلني للمطار أنا في طريقي إلى غزة، هل أنت جاد؟ نعم كل الجدية، وكان كذلك.
في طريقي للمطار صحبة الأخ العزيز مررنا على مقبرة المسلمين غرب لندن، وقرأنا الفاتحة على روح والدته وعلى أموات المسلمين، مشوار هام في هذه اللحظات ليتذكر الإنسان ويخشع، وليتعظ ويسمع.
رحلة الطائرة كانت طويلة وطويلة جداً، أخذتني الأفكار ورحلت في عالم آخر لا يقل عن حقيقة أني معلق بين السماء والأرض، تارة ابتسم وأشعر بالسعادة، وتارة تدمع عيناي من عظة الأمر الذي انتظرته عقوداً من الزمن، وخوفاً من عدم الوصول لأسباب تتعلق بالطريق والمعبر. حطت الطائرة في مطار القاهرة في موعدها تماماً، وبعد اتمام اجراءات الدخول كنت خارج قاعة المطار في أقل من 30 دقيقة، رقم قياسي آخر في مسلسل التساهيل، لك الشكر يا رب.
أبو مصطفى الشاب المصري الأسمر ينادي علي في زحمة المطار أبو عمر، لقد كان في انتظاري بالمطار صحبة أخيه، استبشرت عند رؤيته بوجهه الباسم وطبعه الهادئ، وكعادة أهل مصر وكرمهم وحسن ضيافتهم، ورغم إلحاحي بالتوجه لموقف سيارات العريش، أصروا أن الوقت غير مناسب، والطريق "بتتقفل" و"ما فيش سيارات دلوقتي"، و"الصباح رباح"، رضخت لهما ورافقتهما إلى منزلهما في القاهرة، ورغم أن عقلي قد تجمد عند نقطة واحدة: التوجه إلى غزة، إلا أنني وجدت نفسي محاطاً بكرم عائلة أبو مصطفى، وتسابقها للترحاب والسؤال وإكرام الضيف، زادهم الله من رزقه ونعيمه.
استطعت أن أنام لثلاث ساعات ثم استيقظت، "بينا" يا أبو مصطفى، على بركة الله اتجهنا نحو موقف المرج الجديدة، وكانت الساعة قد قاربت السابعة صباحاً، ولم نجد في موقف العريش إلا سيارة واحدة فقط، سلام عليكم يا عم رايح على فين؟ أجاب طالع على رفح وناقصني راكب! سبحان الله على رفح مباشرة دون المرور على العريش وباقي مكان راكب؟ كانت هذه علامة أخرى بعد الاستخارة الليلة الماضية، ركبت وانطلقت السيارة، وانطلقت معها مشاعري وأنا اقترب من اللحظة المنتظرة.
السائق أخبرنا أن الحواجز على الطريق تملؤه، وأنه غير مسؤول إن طُلب منا النزول والعودة، وأن أجرة النقل لا علاقة لها بذلك، اتكل على الله ياعم، وكان ما توقع، فعند أول حاجز عند مدخل مدينة الإسماعيلية طٌلب من سيدة وابنتيها النزول من السيارة وإنزال أمتعتهن والعودة أدراجهن، كان ذلك لأنهن يحملن وثائق سفر خاصة باللاجئين الفلسطينيين، ورغم أن لديهن إقامات في مصر، إلا أن ذلك لم يشفع لهن، الأوامر صارمة بعدم السماح للفلسطيني بالمرور، ذرفن الدموع فالأم كانت على موعد مع أبناء خمسة لها لم تلتق بهم منذ سنوات، ومعها كانت البنات على أمل لقاء إخوتهن، ووجدتني أشعر بحزن وغضب شديدين، ما ذنبهن وأي جريمة ارتكبن؟ هن أحق مني بالمرور للقاء الأبناء والإخوة، وما الفرق بيني وبينهن سوى أوراق تقول هذه وثيقة، وذلك جواز سفر أجنبي؟ يا الله كم هو محزن حالنا، ترى كم من الزمن نحتاج ليتعامل معنا أشقاؤنا بما نستحق؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
حاجز وراء حاجز، ونقطة تفتيش وراء أخرى، توقفت عن إحصائها بعد الحاجز العشرين، وعواصف رملية شديدة جعلت الرؤية صعبة، ثم أمطار غزيرة ورياح قوية، مررنا بالعريش والشيخ زويد وكانت مقفرة بمحلاتها المغلقة بحسب الأوامر، وأخيراً وصلنا أطراف مدينة رفح المصرية، أربعة حواجز على المداخل ثم تحويل إجباري للطريق أدخلنا في مناطق غارقة في مياه الأمطار وصولاً إلى الجندي المجهول، هانت "راح الكثير وما بقي إلا القليل"، لكن القليل هذا استغرق أكثر من ساعة ونصف من الجندي المجهول إلى أطراف بوابة صلاح الدين بسبب شدة الازدحام.
عند بنك الاسكندرية أنزلنا سائق السيارة وأشار بيده: من هناك البوابة، حملت أمتعتي، بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلت، سرت مع السائرين والأمطار تهطل بغزارة شديدة، وأقدامنا بل أرجلنا تغوص في المياه والطين، متجهين إلى بوابة صلاح الدين، لاحت في آخر الشارع أجزاء السور الحديدي المثني الشهير، لحظات لا أعرف كيف مرت، لكن أعرف أنني في هذه اللحظات وأنا استذكرها يغالبني دمعي من جديد، كومة من الأحجار وضعها الناس لتسهيل المرور، قفزة من هنا وأخرى من هناك، أصوات تتعالى "ديروا بالكو لتتزحلقو"، اختلطت الدموع بمياه المطر، وأخيراً......... الحمد لله رب العالمين.
د.ابراهيم حمامي