في عام 1946، صدر في يافا بفلسطين كتاب بعنوان (من هو Who Is Who ) يعرف برجالات فلسطين ويقدمهم لأبناء الأمة، وقد قدم صاحب الكتاب أحمد خليل العقاد في كتابه زهاء أربعمائة ترجمة لشخصيات فلسطينية عاملة في مختلف الميادين من علم وصناعة وتجارة وسياسة وما إلى ذلك، في أثناء حياتهم، بقصد إرشاد الناس إلى بعضهم بعض، وإقامة المعاملات والمنافع المتبادلة على أساس التعارف..
[img][/img]
وحين مات الرجل عام 1976 –بعد ثلاثين سنة من صدور كتابه الآنف الذكر- لم يجد من يكتب عنه، وحين جربنا الولوج إلى عالم الراحل أحمد خليل العقاد، لم نجد إلا معلومات قليلة، منها أنه رائد الصحافة العربية في فلسطين وأول من أرخ لها في كتابه (تاريخ الصحافة العربية فل فلسطين 1876-1948)، ولد في يافا سنة 1916، وتلقى علومه في مدرسة دار العلوم الإسلامية والمدرسة الثانوية الأميرية في مدينة يافا.
وأنه كان متعدد المهن فقد عمل بالنجارة عدة سنوات، وفي سنة 1935 عين معلما في مدرسة (سلمة) الأميرية –إلى الشرق من مدينة يافا- لكنه استقال من وظيفته هذه بعد سنة واحدة ليعمل محررا صحفيا في يومية (الجامعة الإسلامية) التي كان يملكها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وما لبث أحمد خليل العقاد أن انتقل منها إلى (جريدة فلسطين) اليومية التي كان مالكها ورئيس تحريرها (رجا العبسي)، ثم غادرها إلى يومية (الدفاع) التي كانت مملوكة لإبراهيم الشنطي الذي ترأس تحريرها أيضا. وبقي العقاد فيها حتى عام 1936.
وفي بداية ثورة 1936- 1939 الوطنية الفلسطينية، اعتقلت سلطات الانتداب العقاد لثلاثة أيام مع ثلاثة صحافيين، وبعد الإفراج عنه سافر إلى بيروت حيث عمل مدرسا للغة العربية والتاريخ في مدرسة العزيزية، وعاد إلى فلسطين سنة 1940 وأصدر جريدة (المهد) وبعد سنتين أسس مكتب الصحافة والنشر في مدينة يافا، وهو أول مكتب عربي قام بأعمال الصحافة والنشر والدعاية في فلسطين.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بعدة أشهر، أسس العقاد مجلة (الرأي العام) الأسبوعية، وكانت تلك المجلة رائدة المجلات الكاريكاتورية في فلسطين.
[img][/img]
انخرط العقاد في الأنشطة النقابية حيث أسس سنة 1945 نقابة عمال النجارة الفلسطينية وانتخب سكرتيرا لها –وكان قد افتتح سنة 1945 مصنعا أو ورشة لصناعة الموبيليا- كما اشترك في تأسيس (جمعية العمال العرب) وانتخب عضوا في هيئتها الإدارية.
وحين نشطت جماعة (الإخوان المسلمين) في فلسطين غداة الحرب العالمية الثانية انضم العقاد إلى شعبتها في يافا.
وبعد نكبة 1948 لجأ العقاد مع أفراد أسرته (زوجته وبناته الثلاثة) إلى الأردن، وهناك أصيب بالشلل سنة 1960، وبقي كذلك حتى وفاته سنة 1976.
وعلى الرغم من وضعه الصحي، فقد استطاع العقاد بمساعدة رفيقة دربه السيدة (رفقة) أن يضع كتابيه الهامين. (تاريخ الصحافة العربية في فلسطين) –صدره عام 1966-، و(تاريخ الصحافة العربية في المملكة الأردنية).
كيف استطاع العقاد أن ينجز هذين الكتابين الهامين وهو المشدود إلى كرسيه، من دون حول أو طول.
لإضاءة هذا الجانب من حياته، طلبنا من ابن أخته وزوج ابنته المحامي اليافاوي سميح جبر الذي كان قريبا منه جدا، فكتب لنا هذه الانطباعات.
أحمد خليل العقاد.. خالي كما عرفته
المحامي: سميح جبر
"كان يجمع صحفا فلسطينية قديمة ويطلب حفظها في صندوق خاص أثير لديه.. وكان يتصفحها أحيانا بمساعدة زوجته، ولم أكن أفهم سبب اقتنائه لهذه الصحف.. كنت أسأله دوما: خالي، لماذا تحتفظ بهذه الصحف؟.. وكان يبتسم ويقول لي: ستعرف فيما بعد.. ثم شاهدته يذهب مع امرأة الخال إلى المطبعة، ويعود ذات يوم محملا بقوالب خشبية فيها (كليشهات) هذه الصحف ويحفظها في البيت، وبعد أيام صدر الكتاب (تاريخ الصحافة العربية في فلسطين، صحافة ما قبل النكبة) وفيه صور جميع الصحف ولمحة عن كل منها وتاريخ تأسيسها واسم صاحبها ورئيس تحريرها واهتماماتها. وأحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة ولاقى اهتماما واسعا من الرأي العام الفلسطيني ومن الصحافيين الفلسطينيين بشكل خاص ومن مجمل المثقفين العرب بشكل عام.. عندها فهمت لماذا كان يقتني هذه الصحف وما هي الغاية من وراء ذلك، وعرفت قيمة هذه الصحف القديمة وقيمة هذا الجهد الذي سبق صدور الكتاب وبشكل عام تعاظمت لدي قيمة هذا الرجل[img][/img]
كان خالي أحمد خليل العقاد مقعدا بفعل المرض.. شلل رباعي كامل.. لا يستطيع تحريك أي شيء في جسمه سوى رأسه، وكان عندما فاجأه المرض في الأربعينيات تقريبا من عمره.. في عز رجولته، في قمة عطائه.. امتثل لإرادة الله وقبل المرض على علاته ورضي أن يكون حيا وميتا في نفس الوقت.. يحتاج إلى الآخرين في كل شيء حتى في حمل السيجارة التي لم يتخل عنها طيلة الفترة الباقية من عمره.. وكانت زوجته –تلك الإنسانة التي أصبحت حماتي فيما بعد- هي يديه ورجليه، وهي التي تحمله من السرير إلى المقعد المتحرك ومن المقعد المتحرك إلى السرير، وتجولت معه في كل رحلاته.. تدفع المقعد أمامها وهي تحمل السيجارة له طيلة سبعة عشر عاما متصلة، كان صابرا على مصابه بل ضحوكا متفائلا دوما.. نسي الشلل ونسي المصاب واستمر يوزع النكات يمينا وشمالا في صمود وقبول بالواقع المرير وحب للحياة فيما يدعو إلى الذهول.
[img][/img]
وكنت أتأمله وأرى فيه بطلا من أبطال الحياة مناضلا عنيدا في قبول الواقع رغم قساوة هذا الواقع ومرارته. وتعلمت منه هذا الصمود.. وكلما عانيت في حياتي من أية صعوبة فيما بعد كانت تتراءى لي صورته وتقول لي: اصمد.. مازالت الحياة بخير.. اقبل ما أنت فيه.. يوجد في الحياة دائما أصعب وأصعب.. وأراه يبتسم، بل يضحك.. وابتسم أنا وأضحك.
إن في حياته ما هو أهمّ من أنّه صحفي كبير ومؤرخ وأديب وشاعر .. إنّ في حياته درس لكلّ أولئك المكتئبين اليائسين أن تعالوا وشاهدوا إنساناً لا يحرك من جسمه بالكاد إلا رأسه ويحتاج إلى مساعدة الآخرين في كلّ شيء، في جلوسه ونومه ونظافته وتغيير وضعية جلوسه كلّ خمس دقائق، وطعامه وشرابه وتدخينه وتجواله، لا يستطيع أن يخدم نفسه إطلاقاً إلا بمساعدة زوجته التي رضيت أيضاً بمصيرها ووقفت إلى جانبه، في درس آخر لكلّ الزوجات في العالم .. وقفت سبعة عشر عاماً تخدم هذا الرجل في صمت ودون أية شكوى أو تذمّر .. تخدمه طيلة النهار والليل، في وفاء ودوام كامل وشعور بالواجب – ولهذا الموضوع حديث آخر- هذا الرجل رغم كلّ ما قلناه كان يستقبل الصباح على كرسيه المتحرك ضاحكاً باسماً بصبر وقبول يثير العجب .. تقولوا لهؤلاء المكتئبين قولوا لأولئك اليائسين الحزانى الذين يملكون أنفسهم على الأقل يملكون أيديهم وأرجلهم ويستغنون عن الآخرين في كلّ شيء قولوا لهم، تعالوا وانظروا كيف يكون القبول بالواقع وكيف يكون تحدي هذا الواقع وكيف يكون الصبر والصمود والتعايش مع الحياة كيفما كانت هذه الحياة .. لا بل والعطاء أيضاً مع كلّ هذا الطريق المسدود .. فقد كان له أن يكون إنساناً سلبياً فهو في شلل كامل وعجز كامل ولا يريد المجتمع منه شيئاً ومعفى من كلّ شيء، ومع ذلك أصرّ إلا أن يكون معطاء وفاعلاً ومؤثراً ومنتجاً .. كان يجمع المصادر ويصنفها ويملي ما يريد أن يكتب على بناته الثلاث ويحفظ قصاصات الصحف والمجلات (والكليشهات) الخاصّة بهذه الصحف، وقد آلى على نفسه أن ينفذ الكتاب الذي كان يحلم بتنفيذه أيام كان واقفاً على رجليه وقد نفذه، وصدر الكتاب:" تاريخ الصحافة العربيّة في فلسطين"، ولم يخطر في بال أحد أنّ واضع هذا الكتاب هو ذلك الإنسان الحي الميت الذي لا يستطيع أن يحرك بالكاد إلا رأسه وأثبت بشكل عملي دون أدنى مبالغة، ونحن شهود عايشناه يومياً، أن الإنسان لا بدّ أن يصل إلى مبتغاه إذا كانت لديه إرادة صادقة وقدرة على التحمّل والصمود مهما كانت الصعوبات ..
رحم الله أحمد خليل العقاد .. خالي الذي تعلمت منه الكثير
إلى هنا انتهت شهادة ابن أخته وزوج ابنته المحامي سميح جبر.
وبتقليب حياة المحامي سميح إبراهيم جبر، وقعنا على قصة تستحق أن تروى، يعود تاريخها إلى الرابع من كانون الثاني عام 1948، وقصة أحداث ذلك اليوم الدامي مثبتة في صحيفة الدفاع في العدد 3850 الصادر بتاريخ السابع من كانون الثاني عام 1948 وصحيفة الدفاع كانت تصدر في يافا آنذاك، ويرأس تحريرها إبراهيم الشنطي، وعدد الجريدة محفوظ بين الجرائد الفلسطينية التي كان العقاد يجمعها.
صباح الرابع من كانون الثاني من عام 1948، جلب مجموعة من الصهاينة سيارة شاحنة كبيرة، ملأى بالمتفجرات وموصولة بجهاز توقيت، وأوقفوها بجانب سرايا الحكومة القديمة في يافا التي كانت مخصصة في ذلك الوقت للشؤون الاجتماعية ورعاية الأطفال، وتقع هذه السرايا في وسط شارع وسوق إسكندر عوض بيافا، وهو الشارع الذي كان يعج بالناس أثناء النهار.
وانفجرت السيارة وتداعت السرايا، وتقوضت جميع الأبنية والدكاكين حولها، وسقط مئات القتلى والجرحى العرب، حتى أن عمال الإنقاذ ظلوا يبحثون عن الجثث تحت الأنقاض عدة أيام، وفي نفس التاريخ نفذ الصهاينة جريمة أخرى في عمارة فندق السميراميس في القدس ..
[img][/img]
وكان بين الضحايا الذين سقطوا في يافا: الحاج إبراهيم جبر- والد المحامي سميح جبر وزوج شقيقة أحمد خليل العقاد- وكذلك أشقاء إبراهيم: عبد الوهاب جبر والحاج أحمد جبر وعبد الفتاح جبر .. كما كان بين الضحايا أعضاء النادي العربي بيافا: غالب راغب الدجاني وزكي هاشم الدرهلي، وسعيد إسماعيل شنبر وسعاد الزبن ونمر المدهون .. ومعظم هؤلاء الضحايا كانوا يقومون بعملهم الإنساني في مركز الخدمات الاجتماعية بيافا .. كما كان بين الضحايا الذين قتلوا في فندق سميراميس الصحفي صبحي شفيق الطاهر .. والضحايا جميعهم من أبناء يافا والمجدل ونابلس والقدس ..
وما تلبث أرملة المرحوم إبراهيم جبر أن تغادر منزل الأسرة في حي المنشية بمدينة يافا بعد أشهر قليلة، لتنضم إلى قافلة المشردين مع أبنائها الخمسة، وأكبرهم في التاسعة من عمره، واستقر بهم المطاف في الأردن، ثم في سورية حيث التحق سميح بمدرسة الأيتام، وليبدأ بإعالة نفسه ومواصلة تعليمه حتى أصبح محامياً.
وكان خاله أحمد خليل العقاد يرعاه بالشكل الذي تسمح به حالته الصحية، ومن خاله تعلم التفاؤل والإصرار.
[img][/img]
وحين مات الرجل عام 1976 –بعد ثلاثين سنة من صدور كتابه الآنف الذكر- لم يجد من يكتب عنه، وحين جربنا الولوج إلى عالم الراحل أحمد خليل العقاد، لم نجد إلا معلومات قليلة، منها أنه رائد الصحافة العربية في فلسطين وأول من أرخ لها في كتابه (تاريخ الصحافة العربية فل فلسطين 1876-1948)، ولد في يافا سنة 1916، وتلقى علومه في مدرسة دار العلوم الإسلامية والمدرسة الثانوية الأميرية في مدينة يافا.
وأنه كان متعدد المهن فقد عمل بالنجارة عدة سنوات، وفي سنة 1935 عين معلما في مدرسة (سلمة) الأميرية –إلى الشرق من مدينة يافا- لكنه استقال من وظيفته هذه بعد سنة واحدة ليعمل محررا صحفيا في يومية (الجامعة الإسلامية) التي كان يملكها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وما لبث أحمد خليل العقاد أن انتقل منها إلى (جريدة فلسطين) اليومية التي كان مالكها ورئيس تحريرها (رجا العبسي)، ثم غادرها إلى يومية (الدفاع) التي كانت مملوكة لإبراهيم الشنطي الذي ترأس تحريرها أيضا. وبقي العقاد فيها حتى عام 1936.
وفي بداية ثورة 1936- 1939 الوطنية الفلسطينية، اعتقلت سلطات الانتداب العقاد لثلاثة أيام مع ثلاثة صحافيين، وبعد الإفراج عنه سافر إلى بيروت حيث عمل مدرسا للغة العربية والتاريخ في مدرسة العزيزية، وعاد إلى فلسطين سنة 1940 وأصدر جريدة (المهد) وبعد سنتين أسس مكتب الصحافة والنشر في مدينة يافا، وهو أول مكتب عربي قام بأعمال الصحافة والنشر والدعاية في فلسطين.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بعدة أشهر، أسس العقاد مجلة (الرأي العام) الأسبوعية، وكانت تلك المجلة رائدة المجلات الكاريكاتورية في فلسطين.
[img][/img]
انخرط العقاد في الأنشطة النقابية حيث أسس سنة 1945 نقابة عمال النجارة الفلسطينية وانتخب سكرتيرا لها –وكان قد افتتح سنة 1945 مصنعا أو ورشة لصناعة الموبيليا- كما اشترك في تأسيس (جمعية العمال العرب) وانتخب عضوا في هيئتها الإدارية.
وحين نشطت جماعة (الإخوان المسلمين) في فلسطين غداة الحرب العالمية الثانية انضم العقاد إلى شعبتها في يافا.
وبعد نكبة 1948 لجأ العقاد مع أفراد أسرته (زوجته وبناته الثلاثة) إلى الأردن، وهناك أصيب بالشلل سنة 1960، وبقي كذلك حتى وفاته سنة 1976.
وعلى الرغم من وضعه الصحي، فقد استطاع العقاد بمساعدة رفيقة دربه السيدة (رفقة) أن يضع كتابيه الهامين. (تاريخ الصحافة العربية في فلسطين) –صدره عام 1966-، و(تاريخ الصحافة العربية في المملكة الأردنية).
كيف استطاع العقاد أن ينجز هذين الكتابين الهامين وهو المشدود إلى كرسيه، من دون حول أو طول.
لإضاءة هذا الجانب من حياته، طلبنا من ابن أخته وزوج ابنته المحامي اليافاوي سميح جبر الذي كان قريبا منه جدا، فكتب لنا هذه الانطباعات.
أحمد خليل العقاد.. خالي كما عرفته
المحامي: سميح جبر
"كان يجمع صحفا فلسطينية قديمة ويطلب حفظها في صندوق خاص أثير لديه.. وكان يتصفحها أحيانا بمساعدة زوجته، ولم أكن أفهم سبب اقتنائه لهذه الصحف.. كنت أسأله دوما: خالي، لماذا تحتفظ بهذه الصحف؟.. وكان يبتسم ويقول لي: ستعرف فيما بعد.. ثم شاهدته يذهب مع امرأة الخال إلى المطبعة، ويعود ذات يوم محملا بقوالب خشبية فيها (كليشهات) هذه الصحف ويحفظها في البيت، وبعد أيام صدر الكتاب (تاريخ الصحافة العربية في فلسطين، صحافة ما قبل النكبة) وفيه صور جميع الصحف ولمحة عن كل منها وتاريخ تأسيسها واسم صاحبها ورئيس تحريرها واهتماماتها. وأحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة ولاقى اهتماما واسعا من الرأي العام الفلسطيني ومن الصحافيين الفلسطينيين بشكل خاص ومن مجمل المثقفين العرب بشكل عام.. عندها فهمت لماذا كان يقتني هذه الصحف وما هي الغاية من وراء ذلك، وعرفت قيمة هذه الصحف القديمة وقيمة هذا الجهد الذي سبق صدور الكتاب وبشكل عام تعاظمت لدي قيمة هذا الرجل[img][/img]
كان خالي أحمد خليل العقاد مقعدا بفعل المرض.. شلل رباعي كامل.. لا يستطيع تحريك أي شيء في جسمه سوى رأسه، وكان عندما فاجأه المرض في الأربعينيات تقريبا من عمره.. في عز رجولته، في قمة عطائه.. امتثل لإرادة الله وقبل المرض على علاته ورضي أن يكون حيا وميتا في نفس الوقت.. يحتاج إلى الآخرين في كل شيء حتى في حمل السيجارة التي لم يتخل عنها طيلة الفترة الباقية من عمره.. وكانت زوجته –تلك الإنسانة التي أصبحت حماتي فيما بعد- هي يديه ورجليه، وهي التي تحمله من السرير إلى المقعد المتحرك ومن المقعد المتحرك إلى السرير، وتجولت معه في كل رحلاته.. تدفع المقعد أمامها وهي تحمل السيجارة له طيلة سبعة عشر عاما متصلة، كان صابرا على مصابه بل ضحوكا متفائلا دوما.. نسي الشلل ونسي المصاب واستمر يوزع النكات يمينا وشمالا في صمود وقبول بالواقع المرير وحب للحياة فيما يدعو إلى الذهول.
[img][/img]
وكنت أتأمله وأرى فيه بطلا من أبطال الحياة مناضلا عنيدا في قبول الواقع رغم قساوة هذا الواقع ومرارته. وتعلمت منه هذا الصمود.. وكلما عانيت في حياتي من أية صعوبة فيما بعد كانت تتراءى لي صورته وتقول لي: اصمد.. مازالت الحياة بخير.. اقبل ما أنت فيه.. يوجد في الحياة دائما أصعب وأصعب.. وأراه يبتسم، بل يضحك.. وابتسم أنا وأضحك.
إن في حياته ما هو أهمّ من أنّه صحفي كبير ومؤرخ وأديب وشاعر .. إنّ في حياته درس لكلّ أولئك المكتئبين اليائسين أن تعالوا وشاهدوا إنساناً لا يحرك من جسمه بالكاد إلا رأسه ويحتاج إلى مساعدة الآخرين في كلّ شيء، في جلوسه ونومه ونظافته وتغيير وضعية جلوسه كلّ خمس دقائق، وطعامه وشرابه وتدخينه وتجواله، لا يستطيع أن يخدم نفسه إطلاقاً إلا بمساعدة زوجته التي رضيت أيضاً بمصيرها ووقفت إلى جانبه، في درس آخر لكلّ الزوجات في العالم .. وقفت سبعة عشر عاماً تخدم هذا الرجل في صمت ودون أية شكوى أو تذمّر .. تخدمه طيلة النهار والليل، في وفاء ودوام كامل وشعور بالواجب – ولهذا الموضوع حديث آخر- هذا الرجل رغم كلّ ما قلناه كان يستقبل الصباح على كرسيه المتحرك ضاحكاً باسماً بصبر وقبول يثير العجب .. تقولوا لهؤلاء المكتئبين قولوا لأولئك اليائسين الحزانى الذين يملكون أنفسهم على الأقل يملكون أيديهم وأرجلهم ويستغنون عن الآخرين في كلّ شيء قولوا لهم، تعالوا وانظروا كيف يكون القبول بالواقع وكيف يكون تحدي هذا الواقع وكيف يكون الصبر والصمود والتعايش مع الحياة كيفما كانت هذه الحياة .. لا بل والعطاء أيضاً مع كلّ هذا الطريق المسدود .. فقد كان له أن يكون إنساناً سلبياً فهو في شلل كامل وعجز كامل ولا يريد المجتمع منه شيئاً ومعفى من كلّ شيء، ومع ذلك أصرّ إلا أن يكون معطاء وفاعلاً ومؤثراً ومنتجاً .. كان يجمع المصادر ويصنفها ويملي ما يريد أن يكتب على بناته الثلاث ويحفظ قصاصات الصحف والمجلات (والكليشهات) الخاصّة بهذه الصحف، وقد آلى على نفسه أن ينفذ الكتاب الذي كان يحلم بتنفيذه أيام كان واقفاً على رجليه وقد نفذه، وصدر الكتاب:" تاريخ الصحافة العربيّة في فلسطين"، ولم يخطر في بال أحد أنّ واضع هذا الكتاب هو ذلك الإنسان الحي الميت الذي لا يستطيع أن يحرك بالكاد إلا رأسه وأثبت بشكل عملي دون أدنى مبالغة، ونحن شهود عايشناه يومياً، أن الإنسان لا بدّ أن يصل إلى مبتغاه إذا كانت لديه إرادة صادقة وقدرة على التحمّل والصمود مهما كانت الصعوبات ..
رحم الله أحمد خليل العقاد .. خالي الذي تعلمت منه الكثير
إلى هنا انتهت شهادة ابن أخته وزوج ابنته المحامي سميح جبر.
وبتقليب حياة المحامي سميح إبراهيم جبر، وقعنا على قصة تستحق أن تروى، يعود تاريخها إلى الرابع من كانون الثاني عام 1948، وقصة أحداث ذلك اليوم الدامي مثبتة في صحيفة الدفاع في العدد 3850 الصادر بتاريخ السابع من كانون الثاني عام 1948 وصحيفة الدفاع كانت تصدر في يافا آنذاك، ويرأس تحريرها إبراهيم الشنطي، وعدد الجريدة محفوظ بين الجرائد الفلسطينية التي كان العقاد يجمعها.
صباح الرابع من كانون الثاني من عام 1948، جلب مجموعة من الصهاينة سيارة شاحنة كبيرة، ملأى بالمتفجرات وموصولة بجهاز توقيت، وأوقفوها بجانب سرايا الحكومة القديمة في يافا التي كانت مخصصة في ذلك الوقت للشؤون الاجتماعية ورعاية الأطفال، وتقع هذه السرايا في وسط شارع وسوق إسكندر عوض بيافا، وهو الشارع الذي كان يعج بالناس أثناء النهار.
وانفجرت السيارة وتداعت السرايا، وتقوضت جميع الأبنية والدكاكين حولها، وسقط مئات القتلى والجرحى العرب، حتى أن عمال الإنقاذ ظلوا يبحثون عن الجثث تحت الأنقاض عدة أيام، وفي نفس التاريخ نفذ الصهاينة جريمة أخرى في عمارة فندق السميراميس في القدس ..
[img][/img]
وكان بين الضحايا الذين سقطوا في يافا: الحاج إبراهيم جبر- والد المحامي سميح جبر وزوج شقيقة أحمد خليل العقاد- وكذلك أشقاء إبراهيم: عبد الوهاب جبر والحاج أحمد جبر وعبد الفتاح جبر .. كما كان بين الضحايا أعضاء النادي العربي بيافا: غالب راغب الدجاني وزكي هاشم الدرهلي، وسعيد إسماعيل شنبر وسعاد الزبن ونمر المدهون .. ومعظم هؤلاء الضحايا كانوا يقومون بعملهم الإنساني في مركز الخدمات الاجتماعية بيافا .. كما كان بين الضحايا الذين قتلوا في فندق سميراميس الصحفي صبحي شفيق الطاهر .. والضحايا جميعهم من أبناء يافا والمجدل ونابلس والقدس ..
وما تلبث أرملة المرحوم إبراهيم جبر أن تغادر منزل الأسرة في حي المنشية بمدينة يافا بعد أشهر قليلة، لتنضم إلى قافلة المشردين مع أبنائها الخمسة، وأكبرهم في التاسعة من عمره، واستقر بهم المطاف في الأردن، ثم في سورية حيث التحق سميح بمدرسة الأيتام، وليبدأ بإعالة نفسه ومواصلة تعليمه حتى أصبح محامياً.
وكان خاله أحمد خليل العقاد يرعاه بالشكل الذي تسمح به حالته الصحية، ومن خاله تعلم التفاؤل والإصرار.