الميتافيزيقا

كثيراً ما تلتقط آذاننا هذا اللفظ مِنْ بين ثنايا أحاديث الأدباء والمثقفين ..
أنا شخصياً يكثر استعمالي لهذا اللفظ عندما أكون بصدد الحديث عن المواضيع الدينية أو الفلسفية , وقد لاحظتُ أنّ المستمع البسيط في كل مرة يظل يتابع حديثي بسلاسةٍ ويُسْرٍ , حتى إذا وصلتُ إلى هذا اللفظ ونطقتُه , أجد المستمع ناظراً إليَّ في حالة مِنَ الدهشة والاستغراب وكأنني ألقيْتُ عليه قنبلة مُسيلة للأفكار !
وإذا كان الأمر متوقفاً على مجرد مصطلح صعب مطلوب تحديد معناه , فهذه ليستْ مشكلة إطلاقاً ..
بل المشكلة فيما يكتنف هذا المصطلح مِنْ صعوبات متعلّقة بطريقة تناوله وتناول القضايا الفلسفية المترتبة عليه ..
وفيما يلي محاولة متواضعة مني لشرح هذا المصطلح ..

يتركب هذا المصطلح مِنْ كلمتيْن يونانيتين ..
كلمة "ميتا" , وتعني :"وراء" ..
وكلمة "فيزيقا" , وتعني:"الطبيعة" ..
ويرجع الأصل التاريخي لهذا المصطلح إلى عهد الفيلسوف اليوناني "أرسطو" ..
حيث قام بعض تلامذته بترتيب مؤلفاته بعد وفاته ..
فوجدوا مجموعة من المؤلفات أطلقَ عليها أرسطو عنوان "الطبيعة" ..
ووجدوا مجموعة أخرى عالج فيها الفيلسوف القضايا المتعلقة بالرب والروح والخلود , وتركها بلا عنوان ..
فعمدوا إلى وضع المؤلفات الأخيرة "وراء" المواضيع المتعلقة بـ"الطبيعة" ..
ومن هنا سُمّيَتْ تلك المؤلفات : "ما وراء الطبيعة" ..
ومنذ ذلك الحين أصبح مصطلح "الميتافيزيقا" أو "ما وراء الطبيعة" , يُطلَق على كل الماهيّات الغيْبيّة غير الخاضعة للحِسّ وغير القابلة للوصف المادّي ..

ولتبسيط الصورة أكثر , يمكن اختزال ما سبق فيما يلي :
فيزيقا = طبيعة = مادة = العالَم المُشَاهَد
ميتافيزيقا = ما وراء الطبيعة = ما وراء المادة = عالَم الغَيْب

ومِنْ هنا يمكن اعتبار "الله" و"الروح" و"العقل" و"الملائكة" و"الجن" أشياءاً ميتافيزيقية , لأنها جميعاً أشياء غير مادية , ومحجوبة عن الإدراك الحِسّي المباشر ..


وجميع مباحث الفلسفة تنقسم عن بكرة أبيها إلى القسمين الرئيسيين :
1- الفلسفة المادية :
والتي تُسَمَّى أحياناً , الفلسفة الطبيعية أو التجريبية أو الواقعية ..
وهي تنظر إلى العالَم باعتباره مجموعة مِنَ القُوَى الميكانيكية المترابطة التي تعمل فيما بينها بصورة آلية يمكن ملاحظتها عن طريق التجربة المعملية ..
كما أنها تنظر إلى العالَم دائماً بنظرة أحادية لا تؤمن إلا بالواقِع المادي المُشَاهَد والمحسوس فقط ..
فهي ترى الإنسان مثلاً جسماً مادياً بحتاً يفكر عن طريق جهاز حيوي معقد التركيب اسمه "المخ" , وليس عن طريق ذلك الكيان المعنوي المُسَمَّى بـ"العقل" ..
ومن أمثالها : الفلسفة الماركسية التي ترى أسبقية المادة على الفكر في الوجود .

2- الفلسفة الميتافيزيقية :
والتي تُسَمَّى أحياناً , الفلسفة المثالية أو العقلانية ..
وهي تعالج القضايا التجريدية الدقيقة التي ليس لها علاقة بالمادة ,
وتنظر إلى العالَم دائماً بنظرة ثنائية تؤمن بوجود "الروح" ككيان منفصِل عن "الجسد" ,, وتؤمن بوجود "العقل" ككيان منفصل عن "المخ" , وهكذا ..
ومن أمثالها : الفلسفة الهيجلية التى ترى أسبقية الفكر على المادة في الوجود .


ومِنْ هنا نلاحظ أنّ الفلسفات المادية ترتبط ارتباطاً مباشراً بـ"العلم" , لأنه ذو طابع تجريبي يبحث في الواقع المُشَاهَد فقط ..
بينما نلاحظ الصلة الوثيقة جداً التي تربط الفلسفات الميتافيزيقية بـ"الدين" , نظراً لأنّ كلاهما يعالج القضايا المتعلّقة بـ"ما وراء المادة" ..

-----------------

إلى هنا , لا أعتقد أنّ الموضوع يمثل أي صعوبة تُذكَر في الفهم ..
إلا أنني أعتقد أنني سأسبب لبساً للقاريء وسأجعله يقع في حيرة من أمره , إذا أخبرتُه أنني برغم ماديّتي وعدم إيماني بالميتافيزيقا , إلا أنني لا أستبعد وجود أشياء مثل "الروح" و"الجن" !!!
هذا لأنّ لفظ "الميتافيزيقا" في حد ذاته لفظ خادع وغير صادق !!
إذا عُدنا لشرح أصل الكلمة أعلاه , فسنجد كما وضّحنا أنّ :
الميتافيزيقا = ما وراء المادة
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا :
هل معنى أنّ الشيء موجود وراء المادة , أنه غير مادي ؟؟
بالطبع لا !!
فليس معنى أنّ هناك شيئاً لم يكتشفه العلم أو لم تدركه حواسّنا المباشرة , أنه بالضرورة غير مادي ..
هناك ظواهر كنا نعتقد في الماضي بأنها غامضة وذات طابع ميتافيزيقي , ثم تطوّر العلم بعد ذلك واستطاع التوصُّل إليها , ليكتشف أنها أشياء ذات خصائص مادية فيزيقية تماماً كغيرها من الأشياء ..
كنا نعتقد مثلاً في الماضي أنّ "الصرع" يصيب الإنسان لأنّ أرواحاً خبيثة قد حَلَّتْ بروحه , ثم اكتشف العلم بعد ذلك أنّ حدوث الصرع متعلق بحدوث خلل في كهرباء المخ !
كنا نعتقد أيضاً أنّ "الاكتئاب" مرض نفسي بحت ليس له علاقة بالجسد , ثم اكتشف العلم بعد ذلك أنّ الاكتئاب ينشأ مِنْ حدوث نقص في إفراز مادة كيميائية في المخ اسمها "السيروتونين" !
وعندما كنا نشاهد "السَحَرَة" يقومون بأعمالٍ خارقة , كنا نعتقد أنّ هناك "جِنَّاً" يساعدهم على ما يقومون به , ثم اكتشفنا بعد ذلك أنّ "السِحْر" مثله مثل أي "عِلْم" , له قواعده وأصوله , وأنّ الأمر لا يتعدّى أكثر مِنْ كوْنه قدرة خاصة على التلاعُب بالمادة وإظهارها في غير مظهرها المعتاد !!
وحتى إنْ كان يوجَد هناك فعلاً ما يُسَمَّى بـ"الجِنّ" , فهذا لا يمنع كوْنها كائنات مادية , ولكنها تحمل خصائص لم نستطع اكتشافها والتوصُّل إليها بعد , أي أنها فيزيقا لكنها فيزيقا متطورة وغير معتادة ..
نفس الشيء ينطبق على "الروح" , قد تكون موجودة فعلاً , لكنها أيضاً وإنْ وُجِدَتْ فهي مادية , لكنّها ذات خصائص لم نستطع اكتشافها بعد , وقد تكون عبارة عن ذرات لطيفة التكوين كما قال "ديمقريطس" رائد المدرسة الفلسفية الذرية اليونانية ..
وهكذا ..


وأرى أنه مِنَ التعنُّت والنرجسية ذلك الاعتقاد المنتشر في الوسط العلمي بأنّ كل ما لم يتوصل إليه العلم فهو غير موجود ..
لابد أنْ نعترف بقصور العلم وعدم بلوغه الكمال حتى الآن , وأنه في تطور باستمرار ..
وليس معنى أنّه لا يرى الجن أو الروح , أنها غير موجودة ..
إنها في نظري موجودة , وهناك شواهد لا يسعني الآن المجال لذكرها للتدليل على أثرها ..
ولكنها في نظري فيزيقا أخرى موجودة وراء الفيزيقا المحسوسة ..

ولتبسيط الصورة أكثر :
لنفرض أنّ جميع الظواهر الغامضة , قد أطلقنا عليها اسم : "فيزيقا1"
وتركنا اسم الظواهر المادية المعروفة لدينا كما هو : "الفيزيقا"
إذن الـ"فيزيقا1" تكون موجودة وراء "الفيزيقا"
إذن تصبح المعادلة كالتالي :

"فيزيقا1" = ميتا + فيزيقا



وحتماً سيأتي الزمن الذي سيتطور فيه العلم إلى الدرجة التي تمكّنه من اكتشاف ذلك الطرف الأيمن من المعادلة ..
وعندئذ لا أستبعد أنْ يقوم الناس بعمل "فحص" و"تحليل" دوري لـ"كُرَات الروح الشفافة" عند "طبيب الأرواح" !!
وأنْ تُضَاف خاصية جديدة في "الموبايلات" لـ"استشعار" أجساد "الجِنّ" عن بُعْد , تفادياً للاصطدام !!!

أشكرك اخ ابوبكر على التفاصيل عن الميتافيزيقيا فهذه الفلسفة لا بد من تفصيلها فهي واسعة وضرورية
و انا شخصيا استمتع عند القراءة عن ما وراء الطبيعة ..

يا رفيقي استمتع بس انتبه حتى لا تصل بك الى مرحلة الجنون

اللي انجن انجن يا صديقي ...
سنتين وانا ادرس عن الفلسفات ...تعودت عليهم وقرأت الكثير
فوجدت ان الفلسفة هي النصف الاخر للانسان