يعد العديد من الباحثين والمعنيين بالتراث وتصنيفه أن وظيفة الحكاية الشعبية هي التعويض عن عدم مقدرة الإنسان على تحقيق رغبات معينة كان من الصعب عليه تحقيقها. والحكاية الشعبية الفلسطينية ليست بمعزل عن هذا التفسير. ولذلك فإننا نرى في القصص الشعبي الفلسطيني تعويضاً عن الجوع وعن العجز أمام المرض العضال، وعن الانسحاق أمام المضطهد، فنجد في ثنايا الحكايات الحطاب الفقير وقد حصل بطريق الصدفة على «باطية»(1) يمتلىء بالطعام بمجرد دعوته لذلك. ونجد الأعمى وقد جلس تحت شجرة فأرسلت له العناية الإلهية حمامتين تتحادثان وتقول الأولى للثانية أن الأعمى إذا تكحل بريشي من دمك فسيبرأ، ويسرع الأعمى الملهوف على مداواة نفسه بالطريقة الرائعة التي هبطت عليه من السماء ويبرأ. أما الشاب الفقير المضطهد والذي أهمله الناس وأهدروا حقوقه يجد خادماً ذا قوة خارقة يعينه على أن يبرز نفسه وينال إعجاب الجميع بتقحيقه للمعجزات أو بقضائه على مضطهديه.
وفي الحكاية الشعبية أيضاً نجد المغزى الأخلاقي أو المعنى الفلسفي أو النمط السلوكي المفضل يبرز ويطفو فوق الأحداث. ويمكن للباحث أن يلاحظ دون أدنى عناء كيف أن مغزى الحكاية أو دلالة الأسطورة يبرزان حتى من عنوانها ولا تخلو حكاية مهما صغر حجمها أو قل تداولها من نقد لجانب معين من جوانب الحياة الاجتماعية إما بإبرازه في صورة بشعة أو في صورة مشرقة حتى الحكايات الخفيفة التي تتخذ التفكه طابعاً لها نجد أنها تقصد من وراء الفكاهة نقداً لاذعاً.. وهذا يدعو إلى الاعتقاد بأن الأدب الشعبي ملتزم بالضرورة.
وتتفق جميع الحكايات في أن نهاياتها تكون مفرحة ومعروفة في الوقت نفسه، فالبطل يواجه صعوبات أسطورية ومشقات فظيعة يتغلب عليها دائماً ويحقق أهدافه كافة ومنها في أغلب الأحيان زواجه بالمرأة الحسناء وامتلاكه الكنوز والأموال الطائلة. وليس مما يقلل من قيمة الحكاية أن تكون ذات نهاية معروفة سلفاً لأن العقدة الفنية غالباً ما تقوم على الطريقة العبقرية التي يتبعها البطل في التغلب على الإشكالات والمصاعب التي تواجهه.
عند الحديث عن الحكاية الشعبية في فلسطين، يستطيع الباحث أن يلاحظ أن المجتمعات الفلسطينية التي استوطنت المخيمات والمدن خارج أرض فلسطين أنها تمثل الأشكال المختلفة لبيئاتنا في فلسطين قبل نزوحها عامي 1948 و1967، تمثل قرانا الريفية هناك، وتمثل المدن، وتمثل البداوة، وذلك لأن كل شخص في المجتمع لا يستطيع أن يخرج عن معارفه المتوارثة، أوعاداته المتبعة، أو فنونه الأدبية والمادية، وأكثر ما يبدو ذلك، ولو جحده البعض، في لحظات التوتر العصبي والنفسي، وفي مناسبات الأفراح والأحزان.
فأهل الريف الفلسطيني محافظون على المظاهر الفولكلورية المختلفة والتي تتضح في المساكن والأزياء والعادات وتتضح كذلك في الأغنية والحكاية والمعتقدات، ولكن محافظتهم هذه كانت أشد ما تكون قبل أن ينزحوا من ديارهم ذات الطابع الريفي المستقر، فلما كانت النكبة والتشرد تجمعوا -فلاحين وحضراً- تحت خيام وبطانيات، ثم لم يلبثوا مع السنين أن اتخذوا شكل مجتمع جديد في مخيم لا هو بالمجتمع الزراعي ولا بالمدني، ومن سكن من اللاجئين في المدن، وهم قلة، اتخذوا طابع هذه المدن، ومن سكن في القرى، في الضفة الغربية والشرقية، وهم الأقل، حافظوا على طابعهم إلى حد ما.
ولذا فنحن حينما نقول الريف الفلسطيني فإنما نعني قبل النكبة، إذ أننا نجد أبناءه اليوم قد صاروا أقرب إلى جو المدينة والحضارة العصرية التي دخلت إلى كل بيت تقريباً وفي ألوان كسب الرزق.
فأبناء ذلك الريف، يرجعون اليوم أصداءه، ويبعثونه حياً من خلال الحكاية التي لا يزالون يتداولونها بتلذذ وذكرى للجو الذي كانوا قد سمعوها فيه أول مرة وتناقلوها، أباً عن جد.
ويغلب على تلك الحكايات كثرة وود العنصر الخرافي والأسطوري في أجواء الحكايات، وذلك للخروج من الواقع كما تم الإشارة سابقاً.
ومع مجتمع الريف ومجتمع المدن، يجد الباحث أن مجتمع البادية يشارك في حمل الحكاية الشعبية ونقلها عبر الزمن إلى الأجيال، أن بدو بئر السبع وبدو السهل الساحلي الشمالي من فلسطين، وبدو منطقة بيت لحم والخليل، وبدو الأغوار تحفل مجالس السمر عندهم بالسواليف (الحكايات) التي غالباً ما يقصها شاعر بربابة. حيث يجمع فيها بين القص النثري وما تجيش به عواطف الأشخاص من مقطوعات شعرية، حينما يتحلق حوله في شق الشيخ، مجموعة من الأعراب وتدور القهوة المرة (السادة)، فيأخذ في تحديثهم بغرائب الغزوات وما تم فيها بين القبائل المتجاورة من عدوان ونهب وسلب ورد وسلب، وما فيها من مغامرات قام بها غالباً أبناء شيوخ القبائل، حينما يقع الواحد منهم في حب ابنة شيخ أو قبيلة أخرى، معادية لأبيه، ذلك أن أغلب الحكايات في مجتمع البادية تدور حول هذين الموضوعين الرئيسيين: الفروسية والحب.
أما مادتها فغالباً من التاريخ الواقعي الذي يرويه شيوخ القبيلة لشبابها، إذ تراهم يذكرون أشخاصاً بعينهم ويحدثون عنهم، ويلاحظ أيضاً أن حكاياتهم تكاد تخلو من العنصر الخرافي والأسطوري، وتفيض أحاديث البادية حتى تصل إلى تجمعات الناس في القرى وفي المدن، فقد كان قسم كبير من الحكايات التي جمعتها من أهل الريف في مجتمعاتنا تتلذذ بحكايات أهل البادية، فحكاية منصور، وحكاية عبيد الطوال، وحكاية عنزات الطنيب، وحكاية سالم أبو سبيله كلها تفوح برائحة البادية.
أما سبب هذه الكثرة من حكايات البادية في جو المجتمع الريفي، فقد يكون راجعاً للتفاعل المشتمر بين البئتين، وفي أن البادية تنداح على أطراف الريف، أو تقرب عهد الفلاحين بالبداوة وعاداتها، أو لتأثر الناس بتغريبة بني هلال وقصص أبو زيد وهي تمثل الحياة البدوية بأجلى مظاهرها.
وتخلو حكايات البادية من العنصر الخرافي والأسطوري، ويرجع العديد من الباحثين ذلك إلى انشغال هؤلاء الأعراب بأنفسهم وبأخبار غزواتهم وقبائلهم وابلهم والمياه والمراعي التي عليها ينزلون بين الحين والحين وعليها يقتتلون، وينتج عن ذلك أن يصبحوا مجتمعاً منغلقاً على نفسه، يوصد دون الحكاية العالمية أبواب خيامه، رغم أنهم لا يعترفون بالحدود السياسية بين الدول.
ويلمس المطلع على الحكايات الشعبية الفلسطينية أثر من آثار اللجوء والنزوح من الوطن الأصلي إلى وطن جديد، فتجد ذكرى الوطن المغتصب والمحتل تعطر أجواء الحكاية، سواء بالدعاء إلى الله (أن يعيدنا إلى بلادنا سالمين) كما نذكر كثير من جداتنا في بدايات الحكايات ونهاياتها، أو بضرب أمثلة على المسافات في الحكاية من واقع الأرض العربية المغتصبة، فتقول كالمسافة بين يافا والقدس أو يافا وحيفا، أو القرية الفلانية والفلانية، أو بصب اللعنات على اليهود الصهاينة إن ورد ذكر ساحر يهودي أو تاجر، أو ببعض الحكايات التي تحمل مضموناً سياسياً يتخذ موقفاً من المحتل أو مضموناً ثورياً يعيد إلى الأذهان بطولات ثوار سنة 1936 أو 1939.
يتبع....
وفي الحكاية الشعبية أيضاً نجد المغزى الأخلاقي أو المعنى الفلسفي أو النمط السلوكي المفضل يبرز ويطفو فوق الأحداث. ويمكن للباحث أن يلاحظ دون أدنى عناء كيف أن مغزى الحكاية أو دلالة الأسطورة يبرزان حتى من عنوانها ولا تخلو حكاية مهما صغر حجمها أو قل تداولها من نقد لجانب معين من جوانب الحياة الاجتماعية إما بإبرازه في صورة بشعة أو في صورة مشرقة حتى الحكايات الخفيفة التي تتخذ التفكه طابعاً لها نجد أنها تقصد من وراء الفكاهة نقداً لاذعاً.. وهذا يدعو إلى الاعتقاد بأن الأدب الشعبي ملتزم بالضرورة.
وتتفق جميع الحكايات في أن نهاياتها تكون مفرحة ومعروفة في الوقت نفسه، فالبطل يواجه صعوبات أسطورية ومشقات فظيعة يتغلب عليها دائماً ويحقق أهدافه كافة ومنها في أغلب الأحيان زواجه بالمرأة الحسناء وامتلاكه الكنوز والأموال الطائلة. وليس مما يقلل من قيمة الحكاية أن تكون ذات نهاية معروفة سلفاً لأن العقدة الفنية غالباً ما تقوم على الطريقة العبقرية التي يتبعها البطل في التغلب على الإشكالات والمصاعب التي تواجهه.
عند الحديث عن الحكاية الشعبية في فلسطين، يستطيع الباحث أن يلاحظ أن المجتمعات الفلسطينية التي استوطنت المخيمات والمدن خارج أرض فلسطين أنها تمثل الأشكال المختلفة لبيئاتنا في فلسطين قبل نزوحها عامي 1948 و1967، تمثل قرانا الريفية هناك، وتمثل المدن، وتمثل البداوة، وذلك لأن كل شخص في المجتمع لا يستطيع أن يخرج عن معارفه المتوارثة، أوعاداته المتبعة، أو فنونه الأدبية والمادية، وأكثر ما يبدو ذلك، ولو جحده البعض، في لحظات التوتر العصبي والنفسي، وفي مناسبات الأفراح والأحزان.
فأهل الريف الفلسطيني محافظون على المظاهر الفولكلورية المختلفة والتي تتضح في المساكن والأزياء والعادات وتتضح كذلك في الأغنية والحكاية والمعتقدات، ولكن محافظتهم هذه كانت أشد ما تكون قبل أن ينزحوا من ديارهم ذات الطابع الريفي المستقر، فلما كانت النكبة والتشرد تجمعوا -فلاحين وحضراً- تحت خيام وبطانيات، ثم لم يلبثوا مع السنين أن اتخذوا شكل مجتمع جديد في مخيم لا هو بالمجتمع الزراعي ولا بالمدني، ومن سكن من اللاجئين في المدن، وهم قلة، اتخذوا طابع هذه المدن، ومن سكن في القرى، في الضفة الغربية والشرقية، وهم الأقل، حافظوا على طابعهم إلى حد ما.
ولذا فنحن حينما نقول الريف الفلسطيني فإنما نعني قبل النكبة، إذ أننا نجد أبناءه اليوم قد صاروا أقرب إلى جو المدينة والحضارة العصرية التي دخلت إلى كل بيت تقريباً وفي ألوان كسب الرزق.
فأبناء ذلك الريف، يرجعون اليوم أصداءه، ويبعثونه حياً من خلال الحكاية التي لا يزالون يتداولونها بتلذذ وذكرى للجو الذي كانوا قد سمعوها فيه أول مرة وتناقلوها، أباً عن جد.
ويغلب على تلك الحكايات كثرة وود العنصر الخرافي والأسطوري في أجواء الحكايات، وذلك للخروج من الواقع كما تم الإشارة سابقاً.
ومع مجتمع الريف ومجتمع المدن، يجد الباحث أن مجتمع البادية يشارك في حمل الحكاية الشعبية ونقلها عبر الزمن إلى الأجيال، أن بدو بئر السبع وبدو السهل الساحلي الشمالي من فلسطين، وبدو منطقة بيت لحم والخليل، وبدو الأغوار تحفل مجالس السمر عندهم بالسواليف (الحكايات) التي غالباً ما يقصها شاعر بربابة. حيث يجمع فيها بين القص النثري وما تجيش به عواطف الأشخاص من مقطوعات شعرية، حينما يتحلق حوله في شق الشيخ، مجموعة من الأعراب وتدور القهوة المرة (السادة)، فيأخذ في تحديثهم بغرائب الغزوات وما تم فيها بين القبائل المتجاورة من عدوان ونهب وسلب ورد وسلب، وما فيها من مغامرات قام بها غالباً أبناء شيوخ القبائل، حينما يقع الواحد منهم في حب ابنة شيخ أو قبيلة أخرى، معادية لأبيه، ذلك أن أغلب الحكايات في مجتمع البادية تدور حول هذين الموضوعين الرئيسيين: الفروسية والحب.
أما مادتها فغالباً من التاريخ الواقعي الذي يرويه شيوخ القبيلة لشبابها، إذ تراهم يذكرون أشخاصاً بعينهم ويحدثون عنهم، ويلاحظ أيضاً أن حكاياتهم تكاد تخلو من العنصر الخرافي والأسطوري، وتفيض أحاديث البادية حتى تصل إلى تجمعات الناس في القرى وفي المدن، فقد كان قسم كبير من الحكايات التي جمعتها من أهل الريف في مجتمعاتنا تتلذذ بحكايات أهل البادية، فحكاية منصور، وحكاية عبيد الطوال، وحكاية عنزات الطنيب، وحكاية سالم أبو سبيله كلها تفوح برائحة البادية.
أما سبب هذه الكثرة من حكايات البادية في جو المجتمع الريفي، فقد يكون راجعاً للتفاعل المشتمر بين البئتين، وفي أن البادية تنداح على أطراف الريف، أو تقرب عهد الفلاحين بالبداوة وعاداتها، أو لتأثر الناس بتغريبة بني هلال وقصص أبو زيد وهي تمثل الحياة البدوية بأجلى مظاهرها.
وتخلو حكايات البادية من العنصر الخرافي والأسطوري، ويرجع العديد من الباحثين ذلك إلى انشغال هؤلاء الأعراب بأنفسهم وبأخبار غزواتهم وقبائلهم وابلهم والمياه والمراعي التي عليها ينزلون بين الحين والحين وعليها يقتتلون، وينتج عن ذلك أن يصبحوا مجتمعاً منغلقاً على نفسه، يوصد دون الحكاية العالمية أبواب خيامه، رغم أنهم لا يعترفون بالحدود السياسية بين الدول.
ويلمس المطلع على الحكايات الشعبية الفلسطينية أثر من آثار اللجوء والنزوح من الوطن الأصلي إلى وطن جديد، فتجد ذكرى الوطن المغتصب والمحتل تعطر أجواء الحكاية، سواء بالدعاء إلى الله (أن يعيدنا إلى بلادنا سالمين) كما نذكر كثير من جداتنا في بدايات الحكايات ونهاياتها، أو بضرب أمثلة على المسافات في الحكاية من واقع الأرض العربية المغتصبة، فتقول كالمسافة بين يافا والقدس أو يافا وحيفا، أو القرية الفلانية والفلانية، أو بصب اللعنات على اليهود الصهاينة إن ورد ذكر ساحر يهودي أو تاجر، أو ببعض الحكايات التي تحمل مضموناً سياسياً يتخذ موقفاً من المحتل أو مضموناً ثورياً يعيد إلى الأذهان بطولات ثوار سنة 1936 أو 1939.
يتبع....