على البلاطات المُلْس تحت مزراب دار عمي أحمد عباس , وبالقرب من" تحت اللوزات" وعلى أمتار من " باب البوابة التي ببابين " والمفضية إلى حارة قريتي , كم كانت تطيب لنا القعدات المسائية الصيفية , نحن الحفاة المشرتحين أولاد الحارة التحتا , من ارتفاع النقطة في نيسان إلى سقوطها علينا على ظهور الحيطان بجانب مساطيح التين في تشارين .
كان عمي أحمد عباس ابن ثمانين عاماً , و كان بحكم قرب بيته الطيني يجلس إلينا كثيراً ويأنس بنا لما يلمسه فينا من حبّ له واحترام والكل يدعوه " عمي أبوحسن " . هكذا اقتضت الأخلاق في قريتنا أن نخاطب كبير السن يا عمي !فهذا عمي فلان , وهذا عمي علاّن .
وعمي أحمد عباس هذا والمكنى ابا حسن ولده الوحيد خدم في عسكر تركيا أيام "السَّفَرْبَرْلِكْ " .
قلت له ذات غروب , وبكل جدية :
هَهْ يا عمي يا بو حسن ! شو كانت رتبتك في الجيش يوم اللي كنت في العسكرية زمن الأتراك؟!
لم يسمعني جيدا , فأمال سمعه إلي وقال : أيش سالت ؟
سالتك : شو كانت رتبتك في الجيش أيام السفربرلك؟
رتبتي ؟! هه , وبضحكة ساخرة كنت قائد ألاي .. كنت دومان نفر.
دومان نفر؟! لقد دوت هذه الكلمة في قلبي كما يدوي الحجر إذا سقط في بئر عميقة فارغة , يستقر في قاعها بعض الماء والوحل .
- وكم سنة خدمت؟
ثلاث سنين لا بنقصو ولا بزيدو
ثلاث سنين وظلّيت دومان نفر ما أخذت ولا رتبة ؟!
لليش الكذب مثل ما رحت أجيت رحت دومان نفر رجعت دومان نفر تيتي تيتي ، وضحك ضحكة واسعة بوسع بيدر مختار القرية محمد سعيد الخطيب .
قلت : ثلاث سنين ، شو كنت طُبْجي والاّ أيش ؟!
وبعد لحظة أجاب باستهجان وسخرية .. قال : لاكنت خرامنجي ولا طبجي
كنت فَيَرْجي!!
وصمت لحظة , ثم أردف باعتزاز : كنت فَيَرْجي..
كم أدهشتني كلمة " فيرجي " . وسألته : فيرجي ؟! أيش بتعني هاي الكلمة؟
فقال بكشرة : فيرجي بتعني فيرجي .. ألله لا يورجيك , وصمت ... زادت دهشتي . صرت أُزَحْلِف تجاهه على البلاطة قليلاً قليلاً , لأقترب منه ..لأكون بجانبه فأشرب كلماته شرباً كما يشرب هو دخان سيجارته من التبغ الهيشي بنهم شديد . ورحت أتامّل ساقيه الطويلتين , وشاربيه المعقوفتين , وشعره الأشيب , وعينيه العسليتين الواسعتين , وحاجبيه الكثيفين , وإني إذ أتذكّره اليوم أقول بأن قامته تليق برتبة قائد " نـمس "حاملة الطائرات الأمريكية .
ولما قلت له كَمّلْ! قال: قفشونا , وأخذونا من هون على عكا, ومن هناك ركبونا بببور السكة لحيفا , ومن حيفا للفولة والعفولة, ومن الفولة والعفولة لبيسان وقطعنا الشريعة لدرعا , للشام , لرياق , لحمص , لحماة ,لحلب. وفي حلب قالوا لنا: هون انزلوا ! ونزلنا بيّاتين .. وبلا طول سيرة , إن كان السمك في البحر نام , عمّك أبو حسن ليلتها نام ..وطول الليل وأنا أعتّب عتابا فراقيات :
أوف
وصلت بــلاد جدّي ما وصلها
عـرب ودروز والدولـه تصلها
سلامـاتي إلى إمـــي تصلهـا
على جنح الحمـام قبل الغيـاب
وكان معي في الشادر شباب : اثنين من صفورية , وثلاثة من طيرة حيفا , وواحد من لوبية , وواحد من بيسان .
وفي الليل والدنيا عتمة , مِد إصبعك ما بتشوفو , ولا حِس ولا نِس ... لكن سمعنا طول الليل إشي بهدر هدر , مثل ما تقول جمل وهايج !! شو هاذ يا جماعة ؟! وسالت اللي معي : شو هاللي بهدر ياجماعة ؟! ولا واحد من هالرفق جاوبني , الكل مش عارف ! وبالأخير تصبح عَ خير طلع الصبح, قمت طلعت من الشادر , واطّلّعت لبعيد .. والا مثل جبل عالي ونهر مثل مزراب وبشقع من راس هالجبل من فوق لتحت ع الصخر في قاع خلة غميقة .. سالت راعي غنم هناك , شو هاذ يا خوي ؟! قال: هاذ نهر الفرا .. وسكت عمي أبو حسن.
إنني أعترف الآن أنّ وصف رحلة عمي أحمد عباس هذه كانت أول درس لي تلقيته في جغرافية بلاد الشام , وبالرغم من أننا سمعنا حكاية " السفربرلك " هذه منه أنا ولداتي على نفس هؤلاء الصخرات الملس مرات عديدة , إلا أنني كنت أشعر كلما حكاها مجددا بمتعة أكبر , وكأنني أسمعها منه لأول مرة , وأن " دومان نفر" و" فيرجي" , وكلمات مثل خستا وطوز وصو ويكمك وبرنجي وإكّنجي وبيشنجي وسواها من المفردات التركية الكثيرة , كنت أعرفها منه ومن أمثاله من الذين خدموا عسكرية في الجيش التركي أيام السفربرلك .
قلت له: يلا يا عمي وبعد حلب؟
وبعد حلب , أخذونا ع الاسكندرونة , ومنها لأضنة, ومنها لمرسين, لقونية, لاكشهير, لافيون قره حصار , لاسكيشهر , لأنقرة, لأزمير وردوا رجعونا لاسكيشهر , ومنها سفرونا لأديزاري , لأسكيدار تا وصلنا اصطنبول !! وفي اصطنبول يا أفندم سُليم قعَّدونا جمعتين راحات وصلينا في جامع السلطان سليم... وشفنا السلطان عبد الحميد سلطان البرّين والبحرين . بعدين ركّبونا في فرجيطة (فرقاطة ) وكان معنا أكراد وشركس وولاد عرب وقسّمونا : قسم للمدفعية ، قسم للمطبخ , وقسم للجبخانة , وقسم لمخزن الفحم .. وأنا الوحيد أعطوني كريك وقالوا: بتوقف هون قدّام وجاق النار بجنب كوم الفحم , وكلما تشوف النار همدت بتسفى بالكريك وبتزت ع النار فحم !! وهاي كانت شغلتي عملتي , وإذا غابت عنك " فيرجي".
وهيك ظلّيت قدام بيت النار قايم قاعد, ليل نهار, تيجي القراوانة لعندي ، وإذا أكلت وإذا شربت وإذا قمت وإذا نمت وإذا بدون مؤاخذة بدّي أقضي غرض مثل القطّ أقضيه بكوم الفحم !
وتشوف عمك أبو حسن عينيه حمر حمر مثل الجمر , ووجهو مثل وجه العبد الاسود , وإيديه مثل مقحار الطّبون لا غسل ولا قَشَل , قول: مرق شهر قول شهرين قول ثلاثة ..الهوا ما أشمّو ، الشمس ما أشوفها ، وكنت أعرف مثلاً إذا الدنيا كانت ليل أو نهار؟ .. لأ !! فيرجي !! انت غشيم ؟!
قلت له : طيب غَيِّرْ بَدِّلْ!
قال: منين أغيّر وابدّل ؟ مش بيدي .
قلت : إعمل إشي! شِيلْ حُطّ!! صيح ! قُولْ : جاي يا غلمان جاي ! أمان يا ربي أمان!!
قال : قلت مية مرة , ولكن سمعان مش هون.
قلت له: طيّب شو عملت بعدين ؟
قال: جاييك بالحكي ، قلت : أهي مطوّلة , وأبلِّش بهالكريك , خذ عني جيتك , أسفى فحم , واعزق في بيت النار ، وظليت أعزق, والنار ملهلبة وتطرد من الدواخين نار وشرار , والقازانات تغلي والبخار الزايد يدشع لبرّا من القازانات , ويدفق على غرفة القبطان ووين ماكان ! , وساعات الضغط والحمّ نطّت عن الخط لحمر لحظة لحظتين القازانات بتفقع والفيرجيطة ع آخر ستيم , طارت فوق الموج !! قامت القيامة !! شو هاذا ؟! شو اللي صار ضرب زامور الخطر أجوا العسكر يركضوا نزلوا ع الدرج شافوني .. نزل القبطان .. أما شو أنا عينيّ مثل مشاهيب النار , والكريك بإيدي .. مستقتل , واللي علقان هي إمو , رايح اخمع راسو بالكريك وأرميه في النار!!
قال القبطان: أشك أوغلى أشك
قلت له : إنت حمار وابن ألف حمار .. صارت شواربه ترقص , قلتلو: قدم جاي !
قال : إنتو عرب جَنْكَلَه شغل دهْمَشِه! خيانات مِلاّت !
قلتلو: انتو تْراك جنكله ولاد جنكلة عرصات كرخنجيّه , وما خلّيتلو , ولا بقّيتلو... روح يا خنزير !
قال : أدب سيس !
قلتلو : أدبين سيس ، وهجمت عليه بالكريك , انهزم , وطلع يركض عَ السلم كل أربع درجات سوا !!
هه من بعد هدوة أجا الزابط , اما شو زابط إبن حلال!! وصار يحكي معي بالمليح ويراضيني .. وبالاخير قرّب عليّ , وباس راسي ... قلتلو : انا صرلي هون يا أفندم يمكن شهرين يمكن أكثر يمكن أقل الله أعلم , وأنا أزت فحم فِ هالوجاق , لا حدا طلّ عليّ , ولا حدا سألني منين إنت أو شو بتسوِّي ؟
قال الزابط: هاذ حرام , إنت إبن عرب مظلوم . أنا لازم بجيب لك دكيش .
قلت: معلوم مظلوم , وألف مظلوم , أنا لازم أروح شهر راحات.
قال الزابط: مفهوم إنت لازم بروح شهر راحات . وطبطب لي على كتافي ... وتشوف عمك ابو حسن سبع وفلت من قفص في جنينة حيوانات !
وأعطوني فدوس بركاندا , أسبوعين وتشوفني لابس هالبدلة واتفندل رايح جاي في شوارع اصطنبول , شمّام هوا , قطّاف ورد!!
قلته : بَسّ شمام هوا قطّاف ورد ؟
وضحك عمي أبو حسن ضحكة جشّاء وقال : شوف الملعون !
قلت له: وبعدين شو صار ؟
قال وهو يهمّ بالنهوض مع سماعه أذان العشاء:
بعدين شمَّعت الخيط , وأجيتك فراري , وهاذاك وجه الضيف ,
وبعدين ؟!
لا بعدين لا قبلين قفشوني أخرى مرّة ورقعوني ثلاث سنين طباق الحجر.
هه انشاالله صرت أمباشي بكل هالمدّة؟
أمباشي وبعدين معك ؟ قلتلك كنت دومان نفر خفير كراكون .
وقام وهو يكتّ مؤخّرة قنبازه المرقّع وقال مع حركة من قفا يده هكذا : وبالأخير راحت تركيا . وبعدها أجت الإنجليز وراحت ! وخلّيها بسّرك : ما بدوم غير وجه الكريم !!
مؤسسة فلسطين للثقافة
كان عمي أحمد عباس ابن ثمانين عاماً , و كان بحكم قرب بيته الطيني يجلس إلينا كثيراً ويأنس بنا لما يلمسه فينا من حبّ له واحترام والكل يدعوه " عمي أبوحسن " . هكذا اقتضت الأخلاق في قريتنا أن نخاطب كبير السن يا عمي !فهذا عمي فلان , وهذا عمي علاّن .
وعمي أحمد عباس هذا والمكنى ابا حسن ولده الوحيد خدم في عسكر تركيا أيام "السَّفَرْبَرْلِكْ " .
قلت له ذات غروب , وبكل جدية :
هَهْ يا عمي يا بو حسن ! شو كانت رتبتك في الجيش يوم اللي كنت في العسكرية زمن الأتراك؟!
لم يسمعني جيدا , فأمال سمعه إلي وقال : أيش سالت ؟
سالتك : شو كانت رتبتك في الجيش أيام السفربرلك؟
رتبتي ؟! هه , وبضحكة ساخرة كنت قائد ألاي .. كنت دومان نفر.
دومان نفر؟! لقد دوت هذه الكلمة في قلبي كما يدوي الحجر إذا سقط في بئر عميقة فارغة , يستقر في قاعها بعض الماء والوحل .
- وكم سنة خدمت؟
ثلاث سنين لا بنقصو ولا بزيدو
ثلاث سنين وظلّيت دومان نفر ما أخذت ولا رتبة ؟!
لليش الكذب مثل ما رحت أجيت رحت دومان نفر رجعت دومان نفر تيتي تيتي ، وضحك ضحكة واسعة بوسع بيدر مختار القرية محمد سعيد الخطيب .
قلت : ثلاث سنين ، شو كنت طُبْجي والاّ أيش ؟!
وبعد لحظة أجاب باستهجان وسخرية .. قال : لاكنت خرامنجي ولا طبجي
كنت فَيَرْجي!!
وصمت لحظة , ثم أردف باعتزاز : كنت فَيَرْجي..
كم أدهشتني كلمة " فيرجي " . وسألته : فيرجي ؟! أيش بتعني هاي الكلمة؟
فقال بكشرة : فيرجي بتعني فيرجي .. ألله لا يورجيك , وصمت ... زادت دهشتي . صرت أُزَحْلِف تجاهه على البلاطة قليلاً قليلاً , لأقترب منه ..لأكون بجانبه فأشرب كلماته شرباً كما يشرب هو دخان سيجارته من التبغ الهيشي بنهم شديد . ورحت أتامّل ساقيه الطويلتين , وشاربيه المعقوفتين , وشعره الأشيب , وعينيه العسليتين الواسعتين , وحاجبيه الكثيفين , وإني إذ أتذكّره اليوم أقول بأن قامته تليق برتبة قائد " نـمس "حاملة الطائرات الأمريكية .
ولما قلت له كَمّلْ! قال: قفشونا , وأخذونا من هون على عكا, ومن هناك ركبونا بببور السكة لحيفا , ومن حيفا للفولة والعفولة, ومن الفولة والعفولة لبيسان وقطعنا الشريعة لدرعا , للشام , لرياق , لحمص , لحماة ,لحلب. وفي حلب قالوا لنا: هون انزلوا ! ونزلنا بيّاتين .. وبلا طول سيرة , إن كان السمك في البحر نام , عمّك أبو حسن ليلتها نام ..وطول الليل وأنا أعتّب عتابا فراقيات :
أوف
وصلت بــلاد جدّي ما وصلها
عـرب ودروز والدولـه تصلها
سلامـاتي إلى إمـــي تصلهـا
على جنح الحمـام قبل الغيـاب
وكان معي في الشادر شباب : اثنين من صفورية , وثلاثة من طيرة حيفا , وواحد من لوبية , وواحد من بيسان .
وفي الليل والدنيا عتمة , مِد إصبعك ما بتشوفو , ولا حِس ولا نِس ... لكن سمعنا طول الليل إشي بهدر هدر , مثل ما تقول جمل وهايج !! شو هاذ يا جماعة ؟! وسالت اللي معي : شو هاللي بهدر ياجماعة ؟! ولا واحد من هالرفق جاوبني , الكل مش عارف ! وبالأخير تصبح عَ خير طلع الصبح, قمت طلعت من الشادر , واطّلّعت لبعيد .. والا مثل جبل عالي ونهر مثل مزراب وبشقع من راس هالجبل من فوق لتحت ع الصخر في قاع خلة غميقة .. سالت راعي غنم هناك , شو هاذ يا خوي ؟! قال: هاذ نهر الفرا .. وسكت عمي أبو حسن.
إنني أعترف الآن أنّ وصف رحلة عمي أحمد عباس هذه كانت أول درس لي تلقيته في جغرافية بلاد الشام , وبالرغم من أننا سمعنا حكاية " السفربرلك " هذه منه أنا ولداتي على نفس هؤلاء الصخرات الملس مرات عديدة , إلا أنني كنت أشعر كلما حكاها مجددا بمتعة أكبر , وكأنني أسمعها منه لأول مرة , وأن " دومان نفر" و" فيرجي" , وكلمات مثل خستا وطوز وصو ويكمك وبرنجي وإكّنجي وبيشنجي وسواها من المفردات التركية الكثيرة , كنت أعرفها منه ومن أمثاله من الذين خدموا عسكرية في الجيش التركي أيام السفربرلك .
قلت له: يلا يا عمي وبعد حلب؟
وبعد حلب , أخذونا ع الاسكندرونة , ومنها لأضنة, ومنها لمرسين, لقونية, لاكشهير, لافيون قره حصار , لاسكيشهر , لأنقرة, لأزمير وردوا رجعونا لاسكيشهر , ومنها سفرونا لأديزاري , لأسكيدار تا وصلنا اصطنبول !! وفي اصطنبول يا أفندم سُليم قعَّدونا جمعتين راحات وصلينا في جامع السلطان سليم... وشفنا السلطان عبد الحميد سلطان البرّين والبحرين . بعدين ركّبونا في فرجيطة (فرقاطة ) وكان معنا أكراد وشركس وولاد عرب وقسّمونا : قسم للمدفعية ، قسم للمطبخ , وقسم للجبخانة , وقسم لمخزن الفحم .. وأنا الوحيد أعطوني كريك وقالوا: بتوقف هون قدّام وجاق النار بجنب كوم الفحم , وكلما تشوف النار همدت بتسفى بالكريك وبتزت ع النار فحم !! وهاي كانت شغلتي عملتي , وإذا غابت عنك " فيرجي".
وهيك ظلّيت قدام بيت النار قايم قاعد, ليل نهار, تيجي القراوانة لعندي ، وإذا أكلت وإذا شربت وإذا قمت وإذا نمت وإذا بدون مؤاخذة بدّي أقضي غرض مثل القطّ أقضيه بكوم الفحم !
وتشوف عمك أبو حسن عينيه حمر حمر مثل الجمر , ووجهو مثل وجه العبد الاسود , وإيديه مثل مقحار الطّبون لا غسل ولا قَشَل , قول: مرق شهر قول شهرين قول ثلاثة ..الهوا ما أشمّو ، الشمس ما أشوفها ، وكنت أعرف مثلاً إذا الدنيا كانت ليل أو نهار؟ .. لأ !! فيرجي !! انت غشيم ؟!
قلت له : طيب غَيِّرْ بَدِّلْ!
قال: منين أغيّر وابدّل ؟ مش بيدي .
قلت : إعمل إشي! شِيلْ حُطّ!! صيح ! قُولْ : جاي يا غلمان جاي ! أمان يا ربي أمان!!
قال : قلت مية مرة , ولكن سمعان مش هون.
قلت له: طيّب شو عملت بعدين ؟
قال: جاييك بالحكي ، قلت : أهي مطوّلة , وأبلِّش بهالكريك , خذ عني جيتك , أسفى فحم , واعزق في بيت النار ، وظليت أعزق, والنار ملهلبة وتطرد من الدواخين نار وشرار , والقازانات تغلي والبخار الزايد يدشع لبرّا من القازانات , ويدفق على غرفة القبطان ووين ماكان ! , وساعات الضغط والحمّ نطّت عن الخط لحمر لحظة لحظتين القازانات بتفقع والفيرجيطة ع آخر ستيم , طارت فوق الموج !! قامت القيامة !! شو هاذا ؟! شو اللي صار ضرب زامور الخطر أجوا العسكر يركضوا نزلوا ع الدرج شافوني .. نزل القبطان .. أما شو أنا عينيّ مثل مشاهيب النار , والكريك بإيدي .. مستقتل , واللي علقان هي إمو , رايح اخمع راسو بالكريك وأرميه في النار!!
قال القبطان: أشك أوغلى أشك
قلت له : إنت حمار وابن ألف حمار .. صارت شواربه ترقص , قلتلو: قدم جاي !
قال : إنتو عرب جَنْكَلَه شغل دهْمَشِه! خيانات مِلاّت !
قلتلو: انتو تْراك جنكله ولاد جنكلة عرصات كرخنجيّه , وما خلّيتلو , ولا بقّيتلو... روح يا خنزير !
قال : أدب سيس !
قلتلو : أدبين سيس ، وهجمت عليه بالكريك , انهزم , وطلع يركض عَ السلم كل أربع درجات سوا !!
هه من بعد هدوة أجا الزابط , اما شو زابط إبن حلال!! وصار يحكي معي بالمليح ويراضيني .. وبالاخير قرّب عليّ , وباس راسي ... قلتلو : انا صرلي هون يا أفندم يمكن شهرين يمكن أكثر يمكن أقل الله أعلم , وأنا أزت فحم فِ هالوجاق , لا حدا طلّ عليّ , ولا حدا سألني منين إنت أو شو بتسوِّي ؟
قال الزابط: هاذ حرام , إنت إبن عرب مظلوم . أنا لازم بجيب لك دكيش .
قلت: معلوم مظلوم , وألف مظلوم , أنا لازم أروح شهر راحات.
قال الزابط: مفهوم إنت لازم بروح شهر راحات . وطبطب لي على كتافي ... وتشوف عمك ابو حسن سبع وفلت من قفص في جنينة حيوانات !
وأعطوني فدوس بركاندا , أسبوعين وتشوفني لابس هالبدلة واتفندل رايح جاي في شوارع اصطنبول , شمّام هوا , قطّاف ورد!!
قلته : بَسّ شمام هوا قطّاف ورد ؟
وضحك عمي أبو حسن ضحكة جشّاء وقال : شوف الملعون !
قلت له: وبعدين شو صار ؟
قال وهو يهمّ بالنهوض مع سماعه أذان العشاء:
بعدين شمَّعت الخيط , وأجيتك فراري , وهاذاك وجه الضيف ,
وبعدين ؟!
لا بعدين لا قبلين قفشوني أخرى مرّة ورقعوني ثلاث سنين طباق الحجر.
هه انشاالله صرت أمباشي بكل هالمدّة؟
أمباشي وبعدين معك ؟ قلتلك كنت دومان نفر خفير كراكون .
وقام وهو يكتّ مؤخّرة قنبازه المرقّع وقال مع حركة من قفا يده هكذا : وبالأخير راحت تركيا . وبعدها أجت الإنجليز وراحت ! وخلّيها بسّرك : ما بدوم غير وجه الكريم !!
مؤسسة فلسطين للثقافة