شاعر فلسطيني من مواليد دير غسانة، قرب رام الله. له 12 مجموعة شعرية، ومجلد للأعمال الشعرية. حصل على جائزة فلسطين في الشعر عام 2000. ترجمت بعض أشعاره إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية والبرتغالية. وحاز كتابه النثري رأيت رام الله (1997) على جائزة نجيب محفوظ للآداب وصدر حتى الآن في 6 طبعات عربية في القاهرة وبيروت وكازابلانكا ورام الله. وترجم الكتاب إلى لغات عديدة منها الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والإيطالية والهولندية والنرويجية، والبرتغالية والإندونيسية والتركية والصينية. قرأ مريد البرغوثي شعره ونثره في معظم المدن العربية، وفي عواصم ومدن إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا والبرازيل وإسبانيا وشارك في عدد كبير من اللقاءات الشعرية ومعارض الكتاب في العالم. وقدم محاضرات عن الشعر الفلسطيني والعربي في جامعات القاهرة و فاس وأكسفورد ومانشستر وأوسلو ومدريد وغيرها. آخر إصدارته: ديوان متنصف الليل، دار رياض الريس، بيروت، 2005 وقد صدرت ترجمته الإسبانية في ديسمبر 2006 بعنوان Medianoche
مريد البرغوثي
زائر- زائر
- مساهمة رقم 2
رد: مريد البرغوثي
شِرَتْ هذه القصيدة عام 1983 وأتمنى أن يقرأها السياسيون الفلسطينيون المتصارعون اليوم
لي قارِبٌ في البَحْر
لي قارِبٌ في البَحْرِ روحي أبْحَرَتْ مَعَهُ
كَفّايَ مجذافاهُ والعينان قِنديلاهُ والأضلاعُ أضْلُعُهُ
لا النَّجْمُ لاح لمُبحِريهِِ ولا بدا لنواظرِ الأحبابِ مَطْلَعُهُ
تَتَدافعُ الأمواجُ ضدَّ مََسارِهِِ وأنا بنبضِ القَلْبِ أدفَعُهُ
كم مِن فتىً مُسْتَصْوِبٍٍ إبحارَهُ غَرَقاً
لو أدرك التيّارُ بعضَ خِصالِهِ ما كان يَصْرَعُهُ
وصَبَيَّةٍ هَتَكَتْ قميصَ الريح عازِمةً
عزماً يَعُمُّ على بِلادٍ لو تُوَزِّعُهُ
دَمُها يكادُ يُعاتِبُ الأسماكَ مُرْتَعِشاً
ونِداؤها لو أصْغَتِ الأفْلاكُ لَيْلاً سوف تَسْمَعُهُ
والإستغاثةُ لم تَصِلْ لمُغيثِها
إنْ ضاعَ غَوْثُ المستغيثِ فما له شيءٌ يُضَيِّعُهُ
لي قاربٌ في البحر لو عَدَّ العِدى رُبّانُهُ لَتَحَيَّرا
إن رَدَّ مَوْتاً ظاهِراً ما رَدَّ مَوْتاً مُضْمَرا
وعدٌ تَهَشَّمَ قبل أن يَعِدَ المدائنَ والقرى
يتثاءَبُ التاريخُ في هذي البلادِ كأنه مَلَّ الحكايةَ كلَّها
مَلَّ الدَّمَ المسكوبَ من جيلٍ لآخرَ والرجوعَ القهقرى
هل كل هذا الموت يخلو من قيامة؟
وهل المُرَجّى ضاعَ ضيعةَ خاتمٍ في التربِ،
أم أنّا ستُرشِدُنا عَلامَة؟
وهل المُسافِرُ مَلَّ أخطارَ الطريقِ
أم انه مَلَّ السَّلامَة؟
لي قارِبٌ فيه النبيُّ وفيه شيطانٌ رجيمْ
فيه المعذَب والمعذِب والنعيم مع الجحيمْ
مع كاشف الطرقات والأعمى وأفذاذٌ وأُمِّيّونَ، مبتكرو
مَخارِجَ، موقدو أملٍ ومرتكبو مباهجَ،
ظالم فظ ومظلوم حليم
لي قارب فيه الشجِيُّ مع الخَلِيِّ، مع المُخَرَّبِ
والعَفيِّ، مع الأغاني والضجيج المدفعيِّ، مع الصبايا
في الحذاء العسكريِّ، مع المُقَدِّمِ روحَهُ
والصَّيْرَفِيِّ، مع الغَريرِ مع الحكيمْ
لي قارب فيه الرصاصُ وفيه ملاحون مصطرعونََ،
فوقهمُ النجومُ كأنها موتى،
وحولهم الرفاقُ الميّتون كما النجومْ
يا أيها الماء انتبه!
هذا هلاك كالهلاك!
هل أُنْهِكَ الضِّدُّ النبيلُ فصار مَهزوماً نبيلا؟
أم غيَّر الماشي السبيلَ أم انه ضلَّ السبيلا؟
أنا لا سرير يدوم لي
لا سقف يألفني طويلا
أما الأحبة لست ألمسهم،
وإن قالوا "الإقامةَ" قلت بل قصدوا "الرحيلا"
ويجيء بالأخبار راويها
فأفزع قبل أن أصغي له أو أن يقولا
تلد الحواملُ ثم تدفِنُ، ثم تشهق فرحةً بوليدها وتعود تدفنُ
ثم تُدْمِنُ حُزْنَها جيلا فجيلا
وأكاد أسمع دمع جدّاتٍ فقدن الصبر يهمس مرهَقاً:
"صبراً جميلا"
وأنا محاولة البقاء وكل ما حولي يحاول أن أزولا
الوقت ذو نابين يكمن لي
وأهلي يهدمون يدِي، أُضيفُ: يدايَ أَهْمَلَتا كثيراً أو قليلا!
وطني سَماحَكَ لم أَصِلْ في موعدي...
الموت أخَّرَني قليلا!
أنا من سيبني يأسَهُ بعنايةٍ
ويقيم فيه مُحَصَّناً ضد الغبار الحلو، ضد الإبتهاج المُرِّ
والصدأ الخفيِّ وسوف أَخرج منه مَجْلُوّاً صقيلا
لا وهمَ يقنعني طويلا
لا نجمَ يخدعني طويلا
قل إنني مَهْدٌ يقاتلهُ ضريح
قل إنني اليأسُ الفصيح
قل إنني الخطأُ الصحيح
قل إنني ولدٌ وكَفُّ الموتِ مَلْعَبُهُ الفسيح
قل إنني مَزْجٌ عَصِيٌّ بين بارودِ الخنادقِ والمَسيحْ
لي قاربٌ في كل بحرٍ،
خطوةٌ في كل بَرٍّ والمدى سَكَني
جسدي مظاهرةٌ، وفرقها الخصومُ
ولا أظن العمرَ يكفي كي يلملمني
صرتُ التبعثرَ في البلادِ
وكَثْرَةُ الأوطان تعني قِلَّةَ الوطنِ!
جَسَدي خزانةُ كل ظلم الأرضْ
جسدي سقوط العدل من عليائه
جسدي انهماك الروح في إعداد نقمتها:
مُتَكَرِّرٌ مثلَ الظهيرة، مثل حَبِّ القَمْحِ، مثلَ حكاية الجداتِ،
مثلَ مطالب الأطفال مثل اللغمِ
أَكْمن في الزمان، ومن يُعِدُّ القبرَ لي يخشى انتباهي وهو
يدفنني.
قل إنني العاجزْ
قل إنني القادرْ
قل إنني العاديُّ والنافِرْ
قل إنني بُقَعٌ مِن المُستقْبَلِ انتَشَرَتْ على الحاضرْ
قل إن فيَّ عواصفاً خَجْلى
وشهواتٍ مُكَبَّلَةَ الأيادي
قل إنني مُهْرٌ بلا بَرٍّ
وشَبِّهْني بإطراقِ المُنادَى حيث لا أحدٌ يُنادي!
قل إنني جَمْرُ المَواقِدِ في شتاءِ اللهِ غطاني رمادي
وأنا بِلادُ الروح تبني لي كهوفاً من سرائرِها
بلادُ الله تُنْكِرُ خطوتي فيها
بلادُ الموتِ تفتح لي حُدوداً دون أختامٍٍ،
وتستعصي على عيني بِلادي.
وأنا عنادٌ فاجِعٌ وأنا عيونٌ أجَّلَ التاريخ دمعتَها وكَلَّفَها
التيقُّظَ في الظلامْ
أنا نظرةُ الإلحاحِ في قومي إذا عَزَّ الكلامْ
وأنا خِتامُ هزائم العربيِّ وهو هزيمتي الأولى، وعاري طائِلُه
قل إنني من يُخرج الأشكال من أضدادها
يبني ويهدمُ ما استطاعت كَفُّهُ ومَعاولُهْ
قل إنني شقٌّ نحيلٌ في جدار الوقتِ
يكمن في انتشاري هولُهُ وزلازِلًهْ
قل إنني الدرب الحرامُ ومَن مشاه ومن هَدَتْهُ مشاعِلُه
قل إنني من يحفظُ القَسَماتِ حتى لو تقّنَّعَ قاتِلُهْ
قل إنني سكب الغمام على أواخرهِ تَهِلُّ أوائلُهْ
قل إنني ساعي البريد من الشهيد إلى الشهيد لكي تُصانَ رسائِلُه
قل إنني مَن كان مِن غاياتهِ نسجُ الحياة كما القميص
وإن بدا أن القبور وسائلُه
قل إنني مَن لو تكاد يداهُ أن تتصافحا مع مستبدٍّ
لم تُطعْهُ أنامِلُهْ
قل إنني سأموت دون مداخل الوطن الذي
تعطي الحجارةَ والصِّغارَ مشاتِلُهْ
قل إنني بحرٌ تتالي فيه غرقاهُ الكثارُ
وما بَدَتْ للمبحرين سواحِلُهْ
قل إنني المجنونُ أُبْصِِرُ مَوْتَ حُلْمٍ رائعٍ
وأواصِِلُهْ.
***
مريد البرغوثي
1983
لي قارِبٌ في البَحْر
لي قارِبٌ في البَحْرِ روحي أبْحَرَتْ مَعَهُ
كَفّايَ مجذافاهُ والعينان قِنديلاهُ والأضلاعُ أضْلُعُهُ
لا النَّجْمُ لاح لمُبحِريهِِ ولا بدا لنواظرِ الأحبابِ مَطْلَعُهُ
تَتَدافعُ الأمواجُ ضدَّ مََسارِهِِ وأنا بنبضِ القَلْبِ أدفَعُهُ
كم مِن فتىً مُسْتَصْوِبٍٍ إبحارَهُ غَرَقاً
لو أدرك التيّارُ بعضَ خِصالِهِ ما كان يَصْرَعُهُ
وصَبَيَّةٍ هَتَكَتْ قميصَ الريح عازِمةً
عزماً يَعُمُّ على بِلادٍ لو تُوَزِّعُهُ
دَمُها يكادُ يُعاتِبُ الأسماكَ مُرْتَعِشاً
ونِداؤها لو أصْغَتِ الأفْلاكُ لَيْلاً سوف تَسْمَعُهُ
والإستغاثةُ لم تَصِلْ لمُغيثِها
إنْ ضاعَ غَوْثُ المستغيثِ فما له شيءٌ يُضَيِّعُهُ
لي قاربٌ في البحر لو عَدَّ العِدى رُبّانُهُ لَتَحَيَّرا
إن رَدَّ مَوْتاً ظاهِراً ما رَدَّ مَوْتاً مُضْمَرا
وعدٌ تَهَشَّمَ قبل أن يَعِدَ المدائنَ والقرى
يتثاءَبُ التاريخُ في هذي البلادِ كأنه مَلَّ الحكايةَ كلَّها
مَلَّ الدَّمَ المسكوبَ من جيلٍ لآخرَ والرجوعَ القهقرى
هل كل هذا الموت يخلو من قيامة؟
وهل المُرَجّى ضاعَ ضيعةَ خاتمٍ في التربِ،
أم أنّا ستُرشِدُنا عَلامَة؟
وهل المُسافِرُ مَلَّ أخطارَ الطريقِ
أم انه مَلَّ السَّلامَة؟
لي قارِبٌ فيه النبيُّ وفيه شيطانٌ رجيمْ
فيه المعذَب والمعذِب والنعيم مع الجحيمْ
مع كاشف الطرقات والأعمى وأفذاذٌ وأُمِّيّونَ، مبتكرو
مَخارِجَ، موقدو أملٍ ومرتكبو مباهجَ،
ظالم فظ ومظلوم حليم
لي قارب فيه الشجِيُّ مع الخَلِيِّ، مع المُخَرَّبِ
والعَفيِّ، مع الأغاني والضجيج المدفعيِّ، مع الصبايا
في الحذاء العسكريِّ، مع المُقَدِّمِ روحَهُ
والصَّيْرَفِيِّ، مع الغَريرِ مع الحكيمْ
لي قارب فيه الرصاصُ وفيه ملاحون مصطرعونََ،
فوقهمُ النجومُ كأنها موتى،
وحولهم الرفاقُ الميّتون كما النجومْ
يا أيها الماء انتبه!
هذا هلاك كالهلاك!
هل أُنْهِكَ الضِّدُّ النبيلُ فصار مَهزوماً نبيلا؟
أم غيَّر الماشي السبيلَ أم انه ضلَّ السبيلا؟
أنا لا سرير يدوم لي
لا سقف يألفني طويلا
أما الأحبة لست ألمسهم،
وإن قالوا "الإقامةَ" قلت بل قصدوا "الرحيلا"
ويجيء بالأخبار راويها
فأفزع قبل أن أصغي له أو أن يقولا
تلد الحواملُ ثم تدفِنُ، ثم تشهق فرحةً بوليدها وتعود تدفنُ
ثم تُدْمِنُ حُزْنَها جيلا فجيلا
وأكاد أسمع دمع جدّاتٍ فقدن الصبر يهمس مرهَقاً:
"صبراً جميلا"
وأنا محاولة البقاء وكل ما حولي يحاول أن أزولا
الوقت ذو نابين يكمن لي
وأهلي يهدمون يدِي، أُضيفُ: يدايَ أَهْمَلَتا كثيراً أو قليلا!
وطني سَماحَكَ لم أَصِلْ في موعدي...
الموت أخَّرَني قليلا!
أنا من سيبني يأسَهُ بعنايةٍ
ويقيم فيه مُحَصَّناً ضد الغبار الحلو، ضد الإبتهاج المُرِّ
والصدأ الخفيِّ وسوف أَخرج منه مَجْلُوّاً صقيلا
لا وهمَ يقنعني طويلا
لا نجمَ يخدعني طويلا
قل إنني مَهْدٌ يقاتلهُ ضريح
قل إنني اليأسُ الفصيح
قل إنني الخطأُ الصحيح
قل إنني ولدٌ وكَفُّ الموتِ مَلْعَبُهُ الفسيح
قل إنني مَزْجٌ عَصِيٌّ بين بارودِ الخنادقِ والمَسيحْ
لي قاربٌ في كل بحرٍ،
خطوةٌ في كل بَرٍّ والمدى سَكَني
جسدي مظاهرةٌ، وفرقها الخصومُ
ولا أظن العمرَ يكفي كي يلملمني
صرتُ التبعثرَ في البلادِ
وكَثْرَةُ الأوطان تعني قِلَّةَ الوطنِ!
جَسَدي خزانةُ كل ظلم الأرضْ
جسدي سقوط العدل من عليائه
جسدي انهماك الروح في إعداد نقمتها:
مُتَكَرِّرٌ مثلَ الظهيرة، مثل حَبِّ القَمْحِ، مثلَ حكاية الجداتِ،
مثلَ مطالب الأطفال مثل اللغمِ
أَكْمن في الزمان، ومن يُعِدُّ القبرَ لي يخشى انتباهي وهو
يدفنني.
قل إنني العاجزْ
قل إنني القادرْ
قل إنني العاديُّ والنافِرْ
قل إنني بُقَعٌ مِن المُستقْبَلِ انتَشَرَتْ على الحاضرْ
قل إن فيَّ عواصفاً خَجْلى
وشهواتٍ مُكَبَّلَةَ الأيادي
قل إنني مُهْرٌ بلا بَرٍّ
وشَبِّهْني بإطراقِ المُنادَى حيث لا أحدٌ يُنادي!
قل إنني جَمْرُ المَواقِدِ في شتاءِ اللهِ غطاني رمادي
وأنا بِلادُ الروح تبني لي كهوفاً من سرائرِها
بلادُ الله تُنْكِرُ خطوتي فيها
بلادُ الموتِ تفتح لي حُدوداً دون أختامٍٍ،
وتستعصي على عيني بِلادي.
وأنا عنادٌ فاجِعٌ وأنا عيونٌ أجَّلَ التاريخ دمعتَها وكَلَّفَها
التيقُّظَ في الظلامْ
أنا نظرةُ الإلحاحِ في قومي إذا عَزَّ الكلامْ
وأنا خِتامُ هزائم العربيِّ وهو هزيمتي الأولى، وعاري طائِلُه
قل إنني من يُخرج الأشكال من أضدادها
يبني ويهدمُ ما استطاعت كَفُّهُ ومَعاولُهْ
قل إنني شقٌّ نحيلٌ في جدار الوقتِ
يكمن في انتشاري هولُهُ وزلازِلًهْ
قل إنني الدرب الحرامُ ومَن مشاه ومن هَدَتْهُ مشاعِلُه
قل إنني من يحفظُ القَسَماتِ حتى لو تقّنَّعَ قاتِلُهْ
قل إنني سكب الغمام على أواخرهِ تَهِلُّ أوائلُهْ
قل إنني ساعي البريد من الشهيد إلى الشهيد لكي تُصانَ رسائِلُه
قل إنني مَن كان مِن غاياتهِ نسجُ الحياة كما القميص
وإن بدا أن القبور وسائلُه
قل إنني مَن لو تكاد يداهُ أن تتصافحا مع مستبدٍّ
لم تُطعْهُ أنامِلُهْ
قل إنني سأموت دون مداخل الوطن الذي
تعطي الحجارةَ والصِّغارَ مشاتِلُهْ
قل إنني بحرٌ تتالي فيه غرقاهُ الكثارُ
وما بَدَتْ للمبحرين سواحِلُهْ
قل إنني المجنونُ أُبْصِِرُ مَوْتَ حُلْمٍ رائعٍ
وأواصِِلُهْ.
***
مريد البرغوثي
1983
زائر- زائر
- مساهمة رقم 3
رد: مريد البرغوثي
من ديوان "منتصف الليل"
أيها الأعداء شيءٌ ما يُثيرُ الشَّكَّ فيكُمْ!
أيها الأعداءُ "شَيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ!
كُلُّ ما في جَبَلِ الأوليمبِ من آلِهَةٍ
مَعَكُمْ!
تتلقّى الأمرَ مِن شَهْواتِكُمْ!
تَرْمي إذا تَرْمونَ
والأرضُ كما شِئْتُمْ تدورْ!
نَصْرُكُمْ مِهْنَتُكُمْ
كلُّ حَرْبٍ ضِدَّنا تَرْفَعُكُمْ أَعلى
وأَعلى
ثم ترمينا على أقْدارِنا
مثل سَرْوٍ في ظَلامِ المدفأة!
كلُّ ما تَبْنونَهُ يبقى ويَزْدادُ
وما نَبْنيهِ تَذْروهُ المَراثي
نحن للقَبْرِ، وأيديكمْ لِشمبانيا الظَّفَرْ
والذي في دَفترِ القتلِ لَدَيْكُمْ
ليس إلا ميِّتاً،
مُُتْ! فَيَموتْ!
أيها الأعداءُ صارَ الإنتصارْ
عادةً يوميةً كالخُبزِ في أَفْرانِكُمْ
فلماذا هذه الهستيريا؟
ولماذا لا نَراكُمْ راقِصِينْ؟
كم مِن النَّصْرِ سَيَكْفيكُمْ لكي تَنْتَصِروا؟
أيها الأعداءُ، "شيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ،
ما الذي يَجْعلُكُمْ، في ذُروةِ النَّصْرِ عَلَيْنا،
خائِفِين؟!
***
أيها الأعداء شيءٌ ما يُثيرُ الشَّكَّ فيكُمْ!
أيها الأعداءُ "شَيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ!
كُلُّ ما في جَبَلِ الأوليمبِ من آلِهَةٍ
مَعَكُمْ!
تتلقّى الأمرَ مِن شَهْواتِكُمْ!
تَرْمي إذا تَرْمونَ
والأرضُ كما شِئْتُمْ تدورْ!
نَصْرُكُمْ مِهْنَتُكُمْ
كلُّ حَرْبٍ ضِدَّنا تَرْفَعُكُمْ أَعلى
وأَعلى
ثم ترمينا على أقْدارِنا
مثل سَرْوٍ في ظَلامِ المدفأة!
كلُّ ما تَبْنونَهُ يبقى ويَزْدادُ
وما نَبْنيهِ تَذْروهُ المَراثي
نحن للقَبْرِ، وأيديكمْ لِشمبانيا الظَّفَرْ
والذي في دَفترِ القتلِ لَدَيْكُمْ
ليس إلا ميِّتاً،
مُُتْ! فَيَموتْ!
أيها الأعداءُ صارَ الإنتصارْ
عادةً يوميةً كالخُبزِ في أَفْرانِكُمْ
فلماذا هذه الهستيريا؟
ولماذا لا نَراكُمْ راقِصِينْ؟
كم مِن النَّصْرِ سَيَكْفيكُمْ لكي تَنْتَصِروا؟
أيها الأعداءُ، "شيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ،
ما الذي يَجْعلُكُمْ، في ذُروةِ النَّصْرِ عَلَيْنا،
خائِفِين؟!
***
زائر- زائر
- مساهمة رقم 4
رد: مريد البرغوثي
غرفة فلسطينية أكثر إضاءَةً واتساعاً
كلمة الفائزين بجائزة فلسطين للأداب والفنون، قصر الثقافة رام الله 27/12/2004
كم من الشهداء، نساءً ورجالاً، من لو عاش لفاقنا وكتب أجمل مما كتبنا؟ وكم من أسيراتنا وأسرانا ومعتقلينا من لو لم تُحبَس معه ممكناته لرأيناه واقفاً هنا يتلقى التكريم المستحَق؟ فلتذهب التحية الأولى لهم، فهم أجملُ منا. وليكن الواضح واضحاً والأكيد أكيداً: الحزن ليس مهنة فلسطينية، إننا نبتهج أيضاً، وليس أجملَ من محزونٍ يعطي المَسَرَّة قَدْرَها. والموت ليس مهنةً فلسطينية، إننا أبناء الحياة وحُرّاسُها، وقد يُقَدِّمُ حارسٌ عُمْرَهُ ليصونَ ما يَحْرُسْ. أما الصمودُ في وجه الصعوبة فهو حقاً مهنةٌ لنا: يُسَمّيهِ المتهاون تطرفاً، ويسميه العدو إرهاباً، ويسميه الحزبيُّ كفاحاً، وتسميه جدّاتُنا الصبر، ويسميه التاريخ بطولة.
هذه لحظة لطيفة من لحظات الثقافة العربية، فنحن مثقفون عرب نكتب باللغة العربية لقارئ نحاول أن نفهمه ويفهمنا، هنا وفي العالم. لكن الخصوصية التي لا جدال فيها لمِحنة بلادنا فلسطين، تُضيف بُعداً فريداً إلى بهجتنا الصغيرة اليوم:
إن مجتمعاً مُحارِباً ومُحارَباً يعيش في غرفة صغيرة من غرف العالم، ويتقاسم فيه قتلاه ومُقاتلوه رغيفَ الأمل النحيف منذ مئة سنة، ولا يزال قادراً على ترك نافذته مفتوحة على الفنون والآداب، وأعباءِ الحِبرِ والخَيال، هو مجتمع يستحق منا انحناءَتَيْن: الأولى احتراماً لوجعه الذي لا مثيل له، والثانية احتراماً لإدراكه أن الوجع ليس محصولَه الوحيد ولا حقيقتَه الوحيدة، ليس لأنه برفعه سؤال الثقافة إلى مقام البهجة، يعمق انتماءه للبعد العاديّ الرائع في الإنسان، ولكنْ أيضاً لأنه يوسِّع الغرفة الفلسطينية في بيت العالَم، ويجعلُها أكثرَ جدارةً بالحرية عندما تجيء. وستجيء!
بل بوسع المرء أن يذهب، مطمئناً، إلى الأبعد الأهم، مطالباً أن تظل نافذتُنا مفتوحةً على انتقاد الذات وتشخيص الغلط، والإشارةِ إلى كل بقعة داكنة تراها العينُ العادلةُ في صفحة البلاد، حتى لو كانت، بل خصوصاً لو كانت هذه البقع في أعلى الصفحة. ونحن، المشتغلين بالتعبير الثقافي عن الذات الفردية والجماعية، أول من يستحق أن يُنْتَقَد إن لم نَنْتَقِد. ولكي لا يتم الخلطُ المفضوح بين النقد والثرثرة، فإن ما يقوله المثقف باسمه، يجب أن يكون قادراً على قوله أمام التاطقين باسمه.
لسنا المجتمعَ السياسيَّ الوحيد الذي يمكن للعين العادلة أن ترصد وجودَ الأخطاءِ فيه، لكننا ربما كنا المجتمع السياسي الوحيد الآن، الذي يُعَدُّ فيه الإغماضُ عن عن الأخطاء جُرماً يَفوقُها. فنحن لا نملك من ترف الإغماض إلا ما يملكه السائرُ في حقل الألغام. لم يَحِنْ وقتُ الرضى والمدائحِ بعد. والكل يعرف أن صاحب القرار لا يحتاج إلى مادحيه بل هم الذين يحتاجون إليه، وهذه نقطة ضعفهم وضعفه. ولدينا معارضون يحبون المديح أيضاً وهؤلاء لا تستثنيهم السطور!
نحتفل بلحظتنا الناعمة هذه دون أن نشرد عن خشونة الواقع المحيط بنا، فبطولة شعبنا يرافقها ما يرافق البطولة من أَسى، والكون الواسع يزداد شراً وقبحاً إلى درجة تغري بالتساؤل الجارح عن جدوى قرون من الفلسفة والشعر والموسيقى والرسم، وملايين من رفوف الكتب. كأنّ كلَّ التوق الثقافي إلى عالم عادل وجميل، لم يستطع الحيلولةَ دون وصول البشرية إلى ما هي عليه الآن! فأين مِن تلك الفلسفةِ التي قالت لنا إن "الإنسان هو مركزُ الكَوْنْ" هَرَمُ العراء المنتهك جسماً وروحاً وعقلاً في "أبوغريب"؟ وأين منها طائرةٌ حربية تستطيع تدميرَ مدن بأكملها، تتحول إلى قناص سماوي، لتقتل شيخاً واحداً على كرسي متحرك؟ لقد اتخذ المعنى من ضده شبيهاً، ولم نعد نعرف إذا تحدث شخصان عن السلام مثلاً، إن كانا يقصدان الشيء نفسَه! لماذا نكتب ونرسم ونغني ونصور إذاً؟ وهل سنستمر في ذلك؟ نعم! سنستمر. سنستمر حتى لا يظن أحد أن الراهنَ هو الأَبَدْ. وحتى لا يظن أحدٌ أنّ الراهنَ مقبول. وحتى لا يظن أحد أنه باسمنا، أو لأجلنا، أو لأجل أي شعار لامع، يقترف ما يقترف. نعم سنستمر حتى لا يظن أحدٌ أنه يحاربُنا ليمنحنا الأمان، أو يَقْتُلُنا ليحمينا من الموت!
في مجد الميلاد حيث يبتسم الجرس سماحة ويهمس الصليب محبة، وحيث نقترب من موسم حَجِّ الروح إلى هِلالها الأول، كان المنتظَرُ أن يكون واقفاً هنا، يمد لكم ولنا يداً ترتعش بالتجربة والأمل العسير. لكننا نجتمع اليوم في ظل الحضور الكامل لغيابه، وفي ظل موقفه النهائي الذي أزعج ضغوطَ أعدائه، المكفهرِّ منهم والمبتسِم، الغريب منهم والقريب، أعدائه الذين تحتاج إلى ترجمانٍ لتفهم لغتهم وأعدائه الذين لا تحتاج لفهم تواطؤهم إلى ترجمان! نجتمع لنحيّي إصرارَ الرجل على على اكتشاف الصلابة في الغيم، وإصرارَه على رؤية البعيد قريباً، وإصرارَه، حتى الموت، على رفض ما لا يَغْفِر او ما لا يُغْفَر. لقد أدخَلَ ياسر عرفات تعديله الشخصيّ على وطأة الموت، وترك لنا باب الحياة، وإن كان ما زال مغلقاً، لتضرّجَهُ الأيادي التي تَدُقّ، وتفكِّرَ فيه العقول، التي هي أيادٍ أخرى. لقد عَلَتْ أصواتُ العواصم تردد كجوقة مسرحية أنّ غيابَهُ خَلَقَ فرصةً جديدةً للسلام. ولقيادتنا الجديدة أن تمتحن كلَّ الفرص، فهذا واجبها، لكنّ واجبَها أيضاً أن تُفكَّر في البديل الذي ستلجأ إليه عندما تدرك أن الفرصة لم تكن إلا وهماً آخر وحيلةً أخرى. وهذا ما لم يقله لنا حتى الآن كل مرشحي الرئاسة القادمة.
قد يلتصق فرد من الناس بماضيه، طرباً أو ندماً، ففي طبائع الكائن الفرد غرائبُ كثيرة، لكنّ الشعوبَ تبدأ دائماً من مستقبلها. وشعبنا يتدبر أمر مستقبله وسط اختلاطٍ ومَخاطِرْ. ولم يَبْقَ مِن ألاعيب العدوّ جديدٌ يباغته، فقد خَبِر الألاعيب جميعاً، من الكتاب الأبيض بعد ثورة 1936 إلى كل وعد طالَبَ هذا الشعب أن يتخلى عن طاقته النضالية انتظاراً لمكافأةٍ لا تجيء، واستقلالٍ لا يتحقق.
نحن متعبون نعم. لكن العدو لا يرفل في الراحة، ورغم كل خساراتنا فالعدو حاطِبُ ليلٍ يَلُمُّ مع أرباحه خساراتٍ شتى لا تحبها يداه. نوصي أنفُسَنا بالمزيد من الصبر الذكيّ، ونقول للأعداء:
أيها الأعداءُ "شَيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ!
كُلُّ ما في جَبَلِ الأوليمبِ من آلِهَةٍ
مَعَكُمْ!
تتلقّى الأمرَ مِن شَهْواتِكُمْ!
تَرْمي إذا تَرْمونَ
والأرضُ كما شِئْتُمْ تدورْ!
نَصْرُكُمْ مِهْنَتُكُمْ
كلُّ حَرْبٍ ضِدَّنا تَرْفَعُكُمْ أَعلى
وأَعلى
ثم ترمينا على أقْدارِنا
مثل سَرْوٍ في ظَلامِ المدفأة!
كلُّ ما تَبْنونَهُ يبقى ويَزْدادُ
وما نَبْنيهِ تَذْروهُ المَراثي
نحن للقَبْرِ، وأيديكمْ لِشمبانيا الظَّفَرْ
والذي في دَفترِ القتلِ لَدَيْكُمْ
ليس إلا ميِّتاً،
مُُتْ! فَيَموتْ!
أيها الأعداءُ صارَ الإنتصارْ
عادةً يوميةً كالخُبزِ في أَفْرانِكُمْ
فلماذا هذه الهستيريا؟
ولماذا لا نَراكُمْ راقِصِينْ؟
كم مِن النَّصْرِ سَيَكْفيكُمْ لكي تَنْتَصِروا؟
أيها الأعداءُ، "شيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ،
ما الذي يَجْعلُكُمْ، في ذُروةِ النَّصْرِ عَلَيْنا،
خائِفِين؟!
***
كلمة الفائزين بجائزة فلسطين للأداب والفنون، قصر الثقافة رام الله 27/12/2004
كم من الشهداء، نساءً ورجالاً، من لو عاش لفاقنا وكتب أجمل مما كتبنا؟ وكم من أسيراتنا وأسرانا ومعتقلينا من لو لم تُحبَس معه ممكناته لرأيناه واقفاً هنا يتلقى التكريم المستحَق؟ فلتذهب التحية الأولى لهم، فهم أجملُ منا. وليكن الواضح واضحاً والأكيد أكيداً: الحزن ليس مهنة فلسطينية، إننا نبتهج أيضاً، وليس أجملَ من محزونٍ يعطي المَسَرَّة قَدْرَها. والموت ليس مهنةً فلسطينية، إننا أبناء الحياة وحُرّاسُها، وقد يُقَدِّمُ حارسٌ عُمْرَهُ ليصونَ ما يَحْرُسْ. أما الصمودُ في وجه الصعوبة فهو حقاً مهنةٌ لنا: يُسَمّيهِ المتهاون تطرفاً، ويسميه العدو إرهاباً، ويسميه الحزبيُّ كفاحاً، وتسميه جدّاتُنا الصبر، ويسميه التاريخ بطولة.
هذه لحظة لطيفة من لحظات الثقافة العربية، فنحن مثقفون عرب نكتب باللغة العربية لقارئ نحاول أن نفهمه ويفهمنا، هنا وفي العالم. لكن الخصوصية التي لا جدال فيها لمِحنة بلادنا فلسطين، تُضيف بُعداً فريداً إلى بهجتنا الصغيرة اليوم:
إن مجتمعاً مُحارِباً ومُحارَباً يعيش في غرفة صغيرة من غرف العالم، ويتقاسم فيه قتلاه ومُقاتلوه رغيفَ الأمل النحيف منذ مئة سنة، ولا يزال قادراً على ترك نافذته مفتوحة على الفنون والآداب، وأعباءِ الحِبرِ والخَيال، هو مجتمع يستحق منا انحناءَتَيْن: الأولى احتراماً لوجعه الذي لا مثيل له، والثانية احتراماً لإدراكه أن الوجع ليس محصولَه الوحيد ولا حقيقتَه الوحيدة، ليس لأنه برفعه سؤال الثقافة إلى مقام البهجة، يعمق انتماءه للبعد العاديّ الرائع في الإنسان، ولكنْ أيضاً لأنه يوسِّع الغرفة الفلسطينية في بيت العالَم، ويجعلُها أكثرَ جدارةً بالحرية عندما تجيء. وستجيء!
بل بوسع المرء أن يذهب، مطمئناً، إلى الأبعد الأهم، مطالباً أن تظل نافذتُنا مفتوحةً على انتقاد الذات وتشخيص الغلط، والإشارةِ إلى كل بقعة داكنة تراها العينُ العادلةُ في صفحة البلاد، حتى لو كانت، بل خصوصاً لو كانت هذه البقع في أعلى الصفحة. ونحن، المشتغلين بالتعبير الثقافي عن الذات الفردية والجماعية، أول من يستحق أن يُنْتَقَد إن لم نَنْتَقِد. ولكي لا يتم الخلطُ المفضوح بين النقد والثرثرة، فإن ما يقوله المثقف باسمه، يجب أن يكون قادراً على قوله أمام التاطقين باسمه.
لسنا المجتمعَ السياسيَّ الوحيد الذي يمكن للعين العادلة أن ترصد وجودَ الأخطاءِ فيه، لكننا ربما كنا المجتمع السياسي الوحيد الآن، الذي يُعَدُّ فيه الإغماضُ عن عن الأخطاء جُرماً يَفوقُها. فنحن لا نملك من ترف الإغماض إلا ما يملكه السائرُ في حقل الألغام. لم يَحِنْ وقتُ الرضى والمدائحِ بعد. والكل يعرف أن صاحب القرار لا يحتاج إلى مادحيه بل هم الذين يحتاجون إليه، وهذه نقطة ضعفهم وضعفه. ولدينا معارضون يحبون المديح أيضاً وهؤلاء لا تستثنيهم السطور!
نحتفل بلحظتنا الناعمة هذه دون أن نشرد عن خشونة الواقع المحيط بنا، فبطولة شعبنا يرافقها ما يرافق البطولة من أَسى، والكون الواسع يزداد شراً وقبحاً إلى درجة تغري بالتساؤل الجارح عن جدوى قرون من الفلسفة والشعر والموسيقى والرسم، وملايين من رفوف الكتب. كأنّ كلَّ التوق الثقافي إلى عالم عادل وجميل، لم يستطع الحيلولةَ دون وصول البشرية إلى ما هي عليه الآن! فأين مِن تلك الفلسفةِ التي قالت لنا إن "الإنسان هو مركزُ الكَوْنْ" هَرَمُ العراء المنتهك جسماً وروحاً وعقلاً في "أبوغريب"؟ وأين منها طائرةٌ حربية تستطيع تدميرَ مدن بأكملها، تتحول إلى قناص سماوي، لتقتل شيخاً واحداً على كرسي متحرك؟ لقد اتخذ المعنى من ضده شبيهاً، ولم نعد نعرف إذا تحدث شخصان عن السلام مثلاً، إن كانا يقصدان الشيء نفسَه! لماذا نكتب ونرسم ونغني ونصور إذاً؟ وهل سنستمر في ذلك؟ نعم! سنستمر. سنستمر حتى لا يظن أحد أن الراهنَ هو الأَبَدْ. وحتى لا يظن أحدٌ أنّ الراهنَ مقبول. وحتى لا يظن أحد أنه باسمنا، أو لأجلنا، أو لأجل أي شعار لامع، يقترف ما يقترف. نعم سنستمر حتى لا يظن أحدٌ أنه يحاربُنا ليمنحنا الأمان، أو يَقْتُلُنا ليحمينا من الموت!
في مجد الميلاد حيث يبتسم الجرس سماحة ويهمس الصليب محبة، وحيث نقترب من موسم حَجِّ الروح إلى هِلالها الأول، كان المنتظَرُ أن يكون واقفاً هنا، يمد لكم ولنا يداً ترتعش بالتجربة والأمل العسير. لكننا نجتمع اليوم في ظل الحضور الكامل لغيابه، وفي ظل موقفه النهائي الذي أزعج ضغوطَ أعدائه، المكفهرِّ منهم والمبتسِم، الغريب منهم والقريب، أعدائه الذين تحتاج إلى ترجمانٍ لتفهم لغتهم وأعدائه الذين لا تحتاج لفهم تواطؤهم إلى ترجمان! نجتمع لنحيّي إصرارَ الرجل على على اكتشاف الصلابة في الغيم، وإصرارَه على رؤية البعيد قريباً، وإصرارَه، حتى الموت، على رفض ما لا يَغْفِر او ما لا يُغْفَر. لقد أدخَلَ ياسر عرفات تعديله الشخصيّ على وطأة الموت، وترك لنا باب الحياة، وإن كان ما زال مغلقاً، لتضرّجَهُ الأيادي التي تَدُقّ، وتفكِّرَ فيه العقول، التي هي أيادٍ أخرى. لقد عَلَتْ أصواتُ العواصم تردد كجوقة مسرحية أنّ غيابَهُ خَلَقَ فرصةً جديدةً للسلام. ولقيادتنا الجديدة أن تمتحن كلَّ الفرص، فهذا واجبها، لكنّ واجبَها أيضاً أن تُفكَّر في البديل الذي ستلجأ إليه عندما تدرك أن الفرصة لم تكن إلا وهماً آخر وحيلةً أخرى. وهذا ما لم يقله لنا حتى الآن كل مرشحي الرئاسة القادمة.
قد يلتصق فرد من الناس بماضيه، طرباً أو ندماً، ففي طبائع الكائن الفرد غرائبُ كثيرة، لكنّ الشعوبَ تبدأ دائماً من مستقبلها. وشعبنا يتدبر أمر مستقبله وسط اختلاطٍ ومَخاطِرْ. ولم يَبْقَ مِن ألاعيب العدوّ جديدٌ يباغته، فقد خَبِر الألاعيب جميعاً، من الكتاب الأبيض بعد ثورة 1936 إلى كل وعد طالَبَ هذا الشعب أن يتخلى عن طاقته النضالية انتظاراً لمكافأةٍ لا تجيء، واستقلالٍ لا يتحقق.
نحن متعبون نعم. لكن العدو لا يرفل في الراحة، ورغم كل خساراتنا فالعدو حاطِبُ ليلٍ يَلُمُّ مع أرباحه خساراتٍ شتى لا تحبها يداه. نوصي أنفُسَنا بالمزيد من الصبر الذكيّ، ونقول للأعداء:
أيها الأعداءُ "شَيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ!
كُلُّ ما في جَبَلِ الأوليمبِ من آلِهَةٍ
مَعَكُمْ!
تتلقّى الأمرَ مِن شَهْواتِكُمْ!
تَرْمي إذا تَرْمونَ
والأرضُ كما شِئْتُمْ تدورْ!
نَصْرُكُمْ مِهْنَتُكُمْ
كلُّ حَرْبٍ ضِدَّنا تَرْفَعُكُمْ أَعلى
وأَعلى
ثم ترمينا على أقْدارِنا
مثل سَرْوٍ في ظَلامِ المدفأة!
كلُّ ما تَبْنونَهُ يبقى ويَزْدادُ
وما نَبْنيهِ تَذْروهُ المَراثي
نحن للقَبْرِ، وأيديكمْ لِشمبانيا الظَّفَرْ
والذي في دَفترِ القتلِ لَدَيْكُمْ
ليس إلا ميِّتاً،
مُُتْ! فَيَموتْ!
أيها الأعداءُ صارَ الإنتصارْ
عادةً يوميةً كالخُبزِ في أَفْرانِكُمْ
فلماذا هذه الهستيريا؟
ولماذا لا نَراكُمْ راقِصِينْ؟
كم مِن النَّصْرِ سَيَكْفيكُمْ لكي تَنْتَصِروا؟
أيها الأعداءُ، "شيءٌ ما" يُثيرُ الشكَّ فيكُمْ،
ما الذي يَجْعلُكُمْ، في ذُروةِ النَّصْرِ عَلَيْنا،
خائِفِين؟!
***