"حين انفجرت الحرب على العالم بدا مؤكداً أن البناء الصهيوني الصغير سيتحطم وتذروه الرياح".
وهكذا وصف ابرام ليون ساخر الوضع في الحركة الصهيونية في بداية الحرب العالمية الأولى في كتابه "تاريخ اليهود" (الطبعة الخامسة، نيويورك- ص 361).
ولم يكن هذا المؤرخ وحيداً في تقويمه الحركة الصهيونية على هذا النحو فازيا برلين بروفيسور النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة اكسفورد كتب في كتاب حاييم وايزمن ما يلي:
"ستبقى السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى فصلاً جافاً في تاريخ الصهيونية. كثيرون يئسوا، وضايقت الحركة الصهيونية من الجانب الواحد سخرية اليهود الأرثوذكس التي كانت الصهيونية بالنسبة إليهم محاولة كافرة لاستباق المسيح ومن الجانب الثاني معاداة اليهود الأحرار المثقفين والناضجين في الغرب الذين رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لإشغال اليهود بشوفينية تسعر اصطناعياً ويمكن أن تسؤ علاقاتهم مع زملائهم المواطنين من العقائد (الدينية) الأخرى" (حاييم وايزمن- حياته بأقلام عديدة- حرره ماير ويزجال وجون كارميخائيل- لندن 1962 ص 29).
لقد افتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه "جعل الصهيونية عاملاً سياسياً تقر به دول العالم (الكبرى) (كتاب ماكس نوردو إلى شعبه- مقدمة بقلم ب. نتنياهو 1941 ص 52) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب/ أغسطس 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطر على الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية، الإمراطورية الألمانية أعربت عن عطفها.. بريطانيا قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية.. الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت (المصدر ذاته ص 142).
ولكن في عشية الحرب العالمية الأولى انشغلت هذه الدول الإمبريالية التي تفاخر نوردو "بعطفها" على الصهيونية (وأكد أن عطفها لم يكن على اليهود)، بمصالحها التوسعية ولم تر مكاناً للصهيونية في إطار تلك المصالح.
ولكن أزمة الصهيونية لم تنجم عن انشغال الدول الإمبريالية عنها فحسب بل نجمت عن انشغال جماهير الطوائف اليهودية عنها أيضاً. وفي هذا الشأن يمكن قبول تقويم "بن هلبرن" الذي كتب: في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى كانت أيديولوجيات يهودية مختلفة بحلولها للقضية اليهودية، كانت هناك الصهيونية والإقليمية والتحرر المدني والدعوة للفوز بحقوق الأقليات في التركز الإقليمي واللغة والثقافة. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 157).
ومع أن هلبرن لا يحدد مكانة الصهيونية في هذه الدوامة من الأيديولوجيات إلا أن الوقائع تؤكد أنها كانت أضعفها. وفي هذا الصدد يعترف هوراس ماير كالين في كتابه "الصهيونية والسياسة الدولية": ان الصهيونية في الولايات المتحدة خرجت من تفاهتها بهبوب الحرب عام 1914 فقط وحتى ذلك الوقت كان أنصار المنظمة الصهيونية حفنة. (ص 131)
المنظمة الصهيونية تنقسم إلى قوميات:
أشرنا سابقاً إلى أن المنظمة الصهيونية كانت مسرحاً للتناقضات الإمبريالية وخاصة بين الدولتين الإمبرياليتين بريطانيا وألمانيا. ولاحظنا أن الصهيونيين جوهرياً انقسموا بين هذين المعسكرين، فالصهيونيون الألمان ناصروا إمبراطوريتهم النامية، والصهيونيون البريطانيون ناصروا إمبراطوريتهم الوطيدة.
وفي المرحلة التي سبقت صياغة برنامج المنظمة الصهيونية حاول الصهيونيون الألمان إدخال أطروحتهم القومية الآتية إلى البرنامج:
"مرتبطين سوية بانحدارهم وتاريخهم المشترك يؤلف يهود كافة الأقطار جماعة قومية. وهذا الاعتقاد لا يناقض بحال من الأحوال مشاعرهم الوطنية النشيطة وقيامهم بواجبات المواطنة وخاصة تلك التي يشعر بها اليهود الألمان حيال وطنهم الأم ألمانيا" (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 139).
وحاييم وايزمن في العقد الذي سبق الحرب لاحظ أيضاً أن "الصهيونية في إنجلترا عكست الوضع المتأزم العام في الحركة في أسوأ حال. ففي هذا الوقت كانت (الصهيونية في إنجلترا تكتسب نكهة تميل إلى أن تتحول إلى وطنية بريطانية دنيا- وطنية بريطانية قائمة على التصاق وهمي لقطر خيالي لم يره أحد ولم يعرفه أحد" (ريتشارد كروسمان في كتابه: أمة بعثت ص 27-28).
ولذلك ما إن وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 بين كتلتين من الدول الإمبريالية: بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية من ناحية وألمانيا والنمسا- المجر وتركيا من ناحية أخرى حتى اشتد التقاطب القومي في المنظمة الصهيونية وتعمق الصراع الاجتماعي في الطوائف اليهودية توافقاً مع موضع اليهود الطبقي.
وهكذا فإلى جانب الصراع الطبقي في الأقطار الأوروبية الكبرى خلال الحرب واتخاذ اليهود مواقعهم حسب انتمائهم الطبقي سار الصهيونيون مع أقطارهم ولوحوا بأعلامهم القومية حتى حين كانت عواطفهم الطائفية تتعارض مع هذا المطمح أو ذاك من سياسة حكوماتهم.
وفي هذا الصدد كتب بن هلبرن أن يهود أمريكا (ويقصد الطبقة المتمولة) اقنعوا حكومتهم بإلغاء اتفاقها التجاري مع روسيا القيصرية بسبب تمييزها ضد اليهود الذين يحملون جنسية أمريكية، وأن يهود بريطانيا وفرنسا (ويقصد أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة) كانوا يرغبون في الوقوف مثل هذا الموقف إلا أنهم وجدوا أنفسهم يتعاونون في حملة استنفار المشاعر القومية لحرب تقف فيها روسيا القيصرية إلى جانب بريطانيا وفرنسا. وأضاف: إن مهمة يهود برلين (ومن جديد يقصد أبناء الطبقة العليا) كانت أسهل. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 158-159).
ولذلك كان من الطبيعي أن تنقسم الصهيونية العالمية على أساس انتماء قادتها القومي.
لقد كان مقر المنظمة في وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في برلين. وحاول قادتها، وجلهم من الصهيونيين الموالين لألمانيا، أن يسخروها خدمة لأغراض الإمبريالية الألمانية، وفي سبيل ذلك نقلوا المكاتب رسمياً من برلين إلى عاصمة الدنمارك كوبنهاغن المحايدة. ولكن كما لاحظ بن هلبرن: بقي مقر المنظمة الصهيونية في كوبنهاغن على صلة مع ألمانيا أكثر مما كان مع الحلفاء. وفسر هذا التوجه فكتب: ثم إن فلسطين حتى قبل نهاية الحرب بقليل كانت تحت سيطرة تركيا ولم يكن ثابتاً أنها لن تبقى كذلك حين تنتهي الحرب ولم يكن الصهيونيون في برلين واستنبول يستطيعون العمل على فرضية أخرى. وأضاف: والصهيونيون في أقطار الدول الحليفة لم يكن في مقدرهم القيام بمفاوضات مع الحلفاء إلا على أساس استعدادهم على نسف المنظمة الدولية. وفعلاً تحطمت المنظمة.. وعمل وايزمن والصهيونيون الأمريكيون في عزلة عن الصهيونيين في كوبنهاغن ودول المركز (ألمانيا والنمسا- المجر وتركيا) (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 163).
وجدير بالملاحظة هنا أن ماكس نوردو الذي أصبح يبالغ بعد الحرب العالمية الأولى بالود نحو الإمبريالية البريطانية دعا في فترة الحرب العالمية الأولى إلى تجميد عمل الصهيونيين والترقب دون التدخل في أي شيء والاكتفاء بنشاط بنك الاستعمار اليهودي. (ثائر وساسي- قصة فلاديمير جابوتنسكي- بقلم جوزيف ب. شختمان- نيويورك 1956 ص 211-212).
أما مجلة الصهيونيين الأمريكيين: "المكابيين" في السنة الأولى من الحرب فقد اكتشفت ذرائع مقنعة لدخول تركيا إلى جانب دول المركز وبررت انتهاج السلطات التركية سياسة إبعاد اليهود من فلسطين بوصفهم رعايا دول أجنبية معادية (المصدر ذاته ص 211-212).
والثابت أن جناح الصهيونيين الموالين لدول المركز كان قوياً. ومن مؤيدي التعاون مع تركيا دافيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق، وبن زفي، الرئيس الراحل. لقد أخطأ، على حد تعبير ميخائيل بار زوهر في كتابه "النبي المسلح": (تاريخ حياة بن غوريون- لندن 1961 ص 27) حين طالبا بدمج يهود فلسطين في الإمبراطورية التركية، وعارضا سياسة وايزمن وجابوتنسكي القائمة على التحالف مع الحلفاء باعتبار أنها تضر بيهود فلسطين. (المصدر ذاته ص 28).
وهكذا في حين علق حاييم وايزمن وزملاؤه المستقبل الصهيوني على انتصار الحلفاء اعتبر الصهيونيون الألمان وبعض النازلين في فلسطين أن الواجب يدعو إلى الاندماج بالإمبراطورية التركية والتعاون مع جبهة المركز وفي قيادتها الإمبراطورية الألمانية. (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 165).
الصراع الانجلو- فرنسي داخل الحلف:
لم يكن الصراع جديداً بين الدول الإمبريالية على ما كان يطلق عليه آنذاك تركة الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية- التركية). فالصراع احتدم في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين واستطاعت بعض هذه الدول أن تقضم هذا الجزء أو ذاك ولكن التركة كما بقيت كانت أصعب من أن تتفق على توزيعها الدول الإمبريالية قبل الحرب العالمية الأولى.
بل يكاد يتفق المؤرخون أن بقاء الإمبراطورية التركية أو الرجل المريض حتى الحرب العالمية الأولى كان بفضل التوازن الدقيق بين الدول الإمبريالية واتفاقها على صيانة تكامل الإمبراطورية.
ولكن نشوب الحرب أزال وضع التوازن الذي جمد الإمبراطورية المتداعية وأصبحت تركة الرجل المريض بين الأسباب التي يدور حولها القتال بين الكتلتين الإمبرياليتين المتحاربتين.
وكان معروفاً قبل الحرب العالمية الأولى أن لكل من الدول الحليفة: روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا مطامع في هذه التركة تصطدم بعضها ببعض ولذلك لم يكن من الممكن أن تؤدي وحدة المصالح في محاربة دول المركز- الإمبراطوريات في ألمانيا والنمسا- المجر وتركيا- إلى إلغاء تصادم المطامع، بل إلى محاولة تسويتها بشكل من الأشكال وبطريقة لا تمزق الحلف بينها.
وبعد مفاوضات دبلوماسية دارت رحاها- إذ أنها من نوع الحرب الباطنة- في لندن وباريس وبتروغراد تم الاتفاق بين الدول الإمبريالية الثلاث على تقسيم التركة بحيث تستولي كل دولة على القسم الأهم مما كانت تتوق إليه.
وعرف الاتفاق الانجلو- فرنسي- الروسي (الذي تم الوصول إليه بين نيسان/ أبريل وأيار/ مايو 1916) باتفاق سايكس بيكو(1) وكان على صورة تبادل وثائق بين وزارات خارجية الدول الثلاث.
وبموجب الاتفاق تحددت حصة روسيا بالقسطنطينية (استنبول) مع عدد من الأميال إلى الداخل على ضفتي البوسفور وبقطعة كبيرة من شرق الأناضول تضم تقريباً كامل الولايات الأربع المجاورة للحدود الروسية- التركية في حين غنمت فرنسا لنفسها القسم الأكبر من سوريا الطبيعية مع جزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق. وتألفت حصة بريطانيا من منطقة امتدت من طرف سوريا الجنوبية حتى العراق حيث تتوسع بشكل مروحة لتضم بغداد والبصرة وجميع البلاد الواقعة بين خليج فارس (الخليج العربي) والمنطقة الفرنسية.(2) وتقرر ان تقع المنطقة التي اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريا وعرفت بفلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق على ملامحها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا في هذه المنطقة مينائي حيفا وعكا على أن يكون ميناء حيفا ميناءً حراً تستخدمه فرنسا التي منحت بريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الإسكندرونا، الذي كان سيقع في حوزتها، ميناءً حراً.
ولذلك كان من حق لويد جورج الذي رأس الوزارة البريطانية في الفترة الأخيرة من الحرب وبعدها أن يكتب في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" (لندن 1938 المجلد الثاني ص 1115): ان نوايا الدول الحليفة بشأن فلسطين حتى عام 1916 جسدها اتفاق سايكس- بيكو بموجبه "كانت البلاد ستشوه وتمزق إلى أقسام لا تبقى هناك فلسطين".
وجدير بالملاحظة أن الاتفاق تم لا في عزلة عن نشاط الصهيونية في بريطانيا بل على الرغم منه في هذه الفترة.
فما إن وضعت الحرب تركة الإمبراطورية التركية على جدول الأعمال حتى تقدم هربرت صموئيل الذي اشترك في الوزارة البريطانية في هذه الفترة وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين فيما بعد بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية وزرع ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي فيها وبذلك يتحقق حلف بين الفريقين يخدم مصالح بريطانيا.
وفي هذا الوقت بالذات في نهاية عام 1914 ومطلع عام 1915 كان حاييم وايزمن يكتب لأحد أساطين الإمبرياليين س.ب. سكوت محرر مانشستر غارديان: "في حالة وقوع فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني وفي حالة تشجيع بريطانيا استيطان اليهود هناك.. فستستطيع خلال عشرين أو ثلاثين سنة من نقل مليون يهودي أو أكثر إليها فيطورون البلاد ويشكلون حارساً فعالاً يحمي قناة السويس" (كتابه التجربة والخطأ طبعة نيويورك شوكن 1966 ص 149).
وهكذا فمع أن العامل الصهيوني لم يغب عن أساطين الإمبريالية البريطانية فقد اختاروا بين عام 1914 و عام 1916 إهماله.
وإذا كان إدراك أهمية العامل الصهيوني في استراتيجية الإمبريالية البريطانية لم يغب إدراك أهمية هذا العمل في المنافسة بين بريطانيا وفرنسا، فقد كتب رئيس وزراء بريطانيا هربت اسكويث في كتابه "شكريات وتأملات 1852-1928" تحت التاريخين 28 كانون الثاني/ يناير و 13 آذار/ مارس 1915 يصف بعض ملامح مشروع هربرت صموئيل ولاحظ أن "الغريب في الأمر أن يكون نصير المشروع الوحيد الآخر (في الوزارة) لويد جورج ولا حاجة بي للقول انه (لويد جورج) لا يهتم بالمرة باليهود، لا بماهيتهم ولا بمستقبلهم ولكنه يعتقد أنه من انتهاك الحرمة السماح بانتقال الأماكن المقدسة (في فلسطين) إلى حوزة أو حماية "فرنسا اللا إدارية الملحدة" (الجزء 2 ص 71 و 78). لقد تعلم الإمبرياليون منذ وقت طويل تغليف مطامعهم بغلافات الحماس الديني والقلق على مصيره. فلويد جورج، وفي عهد رئاسته الوزارة صدر وعد بلفور. كان في هذا الوقت المبكر من الحرب يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للإمبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال. وفي سبيل ذلك كان مستعداً أن "يمنح الأماكن المقدسة لليهود" حماية لها من "فرنسا اللا إدارية الملحدة"!!
وهكذا وصف ابرام ليون ساخر الوضع في الحركة الصهيونية في بداية الحرب العالمية الأولى في كتابه "تاريخ اليهود" (الطبعة الخامسة، نيويورك- ص 361).
ولم يكن هذا المؤرخ وحيداً في تقويمه الحركة الصهيونية على هذا النحو فازيا برلين بروفيسور النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة اكسفورد كتب في كتاب حاييم وايزمن ما يلي:
"ستبقى السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى فصلاً جافاً في تاريخ الصهيونية. كثيرون يئسوا، وضايقت الحركة الصهيونية من الجانب الواحد سخرية اليهود الأرثوذكس التي كانت الصهيونية بالنسبة إليهم محاولة كافرة لاستباق المسيح ومن الجانب الثاني معاداة اليهود الأحرار المثقفين والناضجين في الغرب الذين رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لإشغال اليهود بشوفينية تسعر اصطناعياً ويمكن أن تسؤ علاقاتهم مع زملائهم المواطنين من العقائد (الدينية) الأخرى" (حاييم وايزمن- حياته بأقلام عديدة- حرره ماير ويزجال وجون كارميخائيل- لندن 1962 ص 29).
لقد افتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه "جعل الصهيونية عاملاً سياسياً تقر به دول العالم (الكبرى) (كتاب ماكس نوردو إلى شعبه- مقدمة بقلم ب. نتنياهو 1941 ص 52) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب/ أغسطس 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطر على الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية، الإمراطورية الألمانية أعربت عن عطفها.. بريطانيا قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية.. الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت (المصدر ذاته ص 142).
ولكن في عشية الحرب العالمية الأولى انشغلت هذه الدول الإمبريالية التي تفاخر نوردو "بعطفها" على الصهيونية (وأكد أن عطفها لم يكن على اليهود)، بمصالحها التوسعية ولم تر مكاناً للصهيونية في إطار تلك المصالح.
ولكن أزمة الصهيونية لم تنجم عن انشغال الدول الإمبريالية عنها فحسب بل نجمت عن انشغال جماهير الطوائف اليهودية عنها أيضاً. وفي هذا الشأن يمكن قبول تقويم "بن هلبرن" الذي كتب: في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى كانت أيديولوجيات يهودية مختلفة بحلولها للقضية اليهودية، كانت هناك الصهيونية والإقليمية والتحرر المدني والدعوة للفوز بحقوق الأقليات في التركز الإقليمي واللغة والثقافة. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 157).
ومع أن هلبرن لا يحدد مكانة الصهيونية في هذه الدوامة من الأيديولوجيات إلا أن الوقائع تؤكد أنها كانت أضعفها. وفي هذا الصدد يعترف هوراس ماير كالين في كتابه "الصهيونية والسياسة الدولية": ان الصهيونية في الولايات المتحدة خرجت من تفاهتها بهبوب الحرب عام 1914 فقط وحتى ذلك الوقت كان أنصار المنظمة الصهيونية حفنة. (ص 131)
المنظمة الصهيونية تنقسم إلى قوميات:
أشرنا سابقاً إلى أن المنظمة الصهيونية كانت مسرحاً للتناقضات الإمبريالية وخاصة بين الدولتين الإمبرياليتين بريطانيا وألمانيا. ولاحظنا أن الصهيونيين جوهرياً انقسموا بين هذين المعسكرين، فالصهيونيون الألمان ناصروا إمبراطوريتهم النامية، والصهيونيون البريطانيون ناصروا إمبراطوريتهم الوطيدة.
وفي المرحلة التي سبقت صياغة برنامج المنظمة الصهيونية حاول الصهيونيون الألمان إدخال أطروحتهم القومية الآتية إلى البرنامج:
"مرتبطين سوية بانحدارهم وتاريخهم المشترك يؤلف يهود كافة الأقطار جماعة قومية. وهذا الاعتقاد لا يناقض بحال من الأحوال مشاعرهم الوطنية النشيطة وقيامهم بواجبات المواطنة وخاصة تلك التي يشعر بها اليهود الألمان حيال وطنهم الأم ألمانيا" (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 139).
وحاييم وايزمن في العقد الذي سبق الحرب لاحظ أيضاً أن "الصهيونية في إنجلترا عكست الوضع المتأزم العام في الحركة في أسوأ حال. ففي هذا الوقت كانت (الصهيونية في إنجلترا تكتسب نكهة تميل إلى أن تتحول إلى وطنية بريطانية دنيا- وطنية بريطانية قائمة على التصاق وهمي لقطر خيالي لم يره أحد ولم يعرفه أحد" (ريتشارد كروسمان في كتابه: أمة بعثت ص 27-28).
ولذلك ما إن وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 بين كتلتين من الدول الإمبريالية: بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية من ناحية وألمانيا والنمسا- المجر وتركيا من ناحية أخرى حتى اشتد التقاطب القومي في المنظمة الصهيونية وتعمق الصراع الاجتماعي في الطوائف اليهودية توافقاً مع موضع اليهود الطبقي.
وهكذا فإلى جانب الصراع الطبقي في الأقطار الأوروبية الكبرى خلال الحرب واتخاذ اليهود مواقعهم حسب انتمائهم الطبقي سار الصهيونيون مع أقطارهم ولوحوا بأعلامهم القومية حتى حين كانت عواطفهم الطائفية تتعارض مع هذا المطمح أو ذاك من سياسة حكوماتهم.
وفي هذا الصدد كتب بن هلبرن أن يهود أمريكا (ويقصد الطبقة المتمولة) اقنعوا حكومتهم بإلغاء اتفاقها التجاري مع روسيا القيصرية بسبب تمييزها ضد اليهود الذين يحملون جنسية أمريكية، وأن يهود بريطانيا وفرنسا (ويقصد أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة) كانوا يرغبون في الوقوف مثل هذا الموقف إلا أنهم وجدوا أنفسهم يتعاونون في حملة استنفار المشاعر القومية لحرب تقف فيها روسيا القيصرية إلى جانب بريطانيا وفرنسا. وأضاف: إن مهمة يهود برلين (ومن جديد يقصد أبناء الطبقة العليا) كانت أسهل. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 158-159).
ولذلك كان من الطبيعي أن تنقسم الصهيونية العالمية على أساس انتماء قادتها القومي.
لقد كان مقر المنظمة في وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في برلين. وحاول قادتها، وجلهم من الصهيونيين الموالين لألمانيا، أن يسخروها خدمة لأغراض الإمبريالية الألمانية، وفي سبيل ذلك نقلوا المكاتب رسمياً من برلين إلى عاصمة الدنمارك كوبنهاغن المحايدة. ولكن كما لاحظ بن هلبرن: بقي مقر المنظمة الصهيونية في كوبنهاغن على صلة مع ألمانيا أكثر مما كان مع الحلفاء. وفسر هذا التوجه فكتب: ثم إن فلسطين حتى قبل نهاية الحرب بقليل كانت تحت سيطرة تركيا ولم يكن ثابتاً أنها لن تبقى كذلك حين تنتهي الحرب ولم يكن الصهيونيون في برلين واستنبول يستطيعون العمل على فرضية أخرى. وأضاف: والصهيونيون في أقطار الدول الحليفة لم يكن في مقدرهم القيام بمفاوضات مع الحلفاء إلا على أساس استعدادهم على نسف المنظمة الدولية. وفعلاً تحطمت المنظمة.. وعمل وايزمن والصهيونيون الأمريكيون في عزلة عن الصهيونيين في كوبنهاغن ودول المركز (ألمانيا والنمسا- المجر وتركيا) (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 163).
وجدير بالملاحظة هنا أن ماكس نوردو الذي أصبح يبالغ بعد الحرب العالمية الأولى بالود نحو الإمبريالية البريطانية دعا في فترة الحرب العالمية الأولى إلى تجميد عمل الصهيونيين والترقب دون التدخل في أي شيء والاكتفاء بنشاط بنك الاستعمار اليهودي. (ثائر وساسي- قصة فلاديمير جابوتنسكي- بقلم جوزيف ب. شختمان- نيويورك 1956 ص 211-212).
أما مجلة الصهيونيين الأمريكيين: "المكابيين" في السنة الأولى من الحرب فقد اكتشفت ذرائع مقنعة لدخول تركيا إلى جانب دول المركز وبررت انتهاج السلطات التركية سياسة إبعاد اليهود من فلسطين بوصفهم رعايا دول أجنبية معادية (المصدر ذاته ص 211-212).
والثابت أن جناح الصهيونيين الموالين لدول المركز كان قوياً. ومن مؤيدي التعاون مع تركيا دافيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق، وبن زفي، الرئيس الراحل. لقد أخطأ، على حد تعبير ميخائيل بار زوهر في كتابه "النبي المسلح": (تاريخ حياة بن غوريون- لندن 1961 ص 27) حين طالبا بدمج يهود فلسطين في الإمبراطورية التركية، وعارضا سياسة وايزمن وجابوتنسكي القائمة على التحالف مع الحلفاء باعتبار أنها تضر بيهود فلسطين. (المصدر ذاته ص 28).
وهكذا في حين علق حاييم وايزمن وزملاؤه المستقبل الصهيوني على انتصار الحلفاء اعتبر الصهيونيون الألمان وبعض النازلين في فلسطين أن الواجب يدعو إلى الاندماج بالإمبراطورية التركية والتعاون مع جبهة المركز وفي قيادتها الإمبراطورية الألمانية. (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 165).
الصراع الانجلو- فرنسي داخل الحلف:
لم يكن الصراع جديداً بين الدول الإمبريالية على ما كان يطلق عليه آنذاك تركة الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية- التركية). فالصراع احتدم في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين واستطاعت بعض هذه الدول أن تقضم هذا الجزء أو ذاك ولكن التركة كما بقيت كانت أصعب من أن تتفق على توزيعها الدول الإمبريالية قبل الحرب العالمية الأولى.
بل يكاد يتفق المؤرخون أن بقاء الإمبراطورية التركية أو الرجل المريض حتى الحرب العالمية الأولى كان بفضل التوازن الدقيق بين الدول الإمبريالية واتفاقها على صيانة تكامل الإمبراطورية.
ولكن نشوب الحرب أزال وضع التوازن الذي جمد الإمبراطورية المتداعية وأصبحت تركة الرجل المريض بين الأسباب التي يدور حولها القتال بين الكتلتين الإمبرياليتين المتحاربتين.
وكان معروفاً قبل الحرب العالمية الأولى أن لكل من الدول الحليفة: روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا مطامع في هذه التركة تصطدم بعضها ببعض ولذلك لم يكن من الممكن أن تؤدي وحدة المصالح في محاربة دول المركز- الإمبراطوريات في ألمانيا والنمسا- المجر وتركيا- إلى إلغاء تصادم المطامع، بل إلى محاولة تسويتها بشكل من الأشكال وبطريقة لا تمزق الحلف بينها.
وبعد مفاوضات دبلوماسية دارت رحاها- إذ أنها من نوع الحرب الباطنة- في لندن وباريس وبتروغراد تم الاتفاق بين الدول الإمبريالية الثلاث على تقسيم التركة بحيث تستولي كل دولة على القسم الأهم مما كانت تتوق إليه.
وعرف الاتفاق الانجلو- فرنسي- الروسي (الذي تم الوصول إليه بين نيسان/ أبريل وأيار/ مايو 1916) باتفاق سايكس بيكو(1) وكان على صورة تبادل وثائق بين وزارات خارجية الدول الثلاث.
وبموجب الاتفاق تحددت حصة روسيا بالقسطنطينية (استنبول) مع عدد من الأميال إلى الداخل على ضفتي البوسفور وبقطعة كبيرة من شرق الأناضول تضم تقريباً كامل الولايات الأربع المجاورة للحدود الروسية- التركية في حين غنمت فرنسا لنفسها القسم الأكبر من سوريا الطبيعية مع جزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق. وتألفت حصة بريطانيا من منطقة امتدت من طرف سوريا الجنوبية حتى العراق حيث تتوسع بشكل مروحة لتضم بغداد والبصرة وجميع البلاد الواقعة بين خليج فارس (الخليج العربي) والمنطقة الفرنسية.(2) وتقرر ان تقع المنطقة التي اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريا وعرفت بفلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق على ملامحها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا في هذه المنطقة مينائي حيفا وعكا على أن يكون ميناء حيفا ميناءً حراً تستخدمه فرنسا التي منحت بريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الإسكندرونا، الذي كان سيقع في حوزتها، ميناءً حراً.
ولذلك كان من حق لويد جورج الذي رأس الوزارة البريطانية في الفترة الأخيرة من الحرب وبعدها أن يكتب في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" (لندن 1938 المجلد الثاني ص 1115): ان نوايا الدول الحليفة بشأن فلسطين حتى عام 1916 جسدها اتفاق سايكس- بيكو بموجبه "كانت البلاد ستشوه وتمزق إلى أقسام لا تبقى هناك فلسطين".
وجدير بالملاحظة أن الاتفاق تم لا في عزلة عن نشاط الصهيونية في بريطانيا بل على الرغم منه في هذه الفترة.
فما إن وضعت الحرب تركة الإمبراطورية التركية على جدول الأعمال حتى تقدم هربرت صموئيل الذي اشترك في الوزارة البريطانية في هذه الفترة وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين فيما بعد بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية وزرع ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي فيها وبذلك يتحقق حلف بين الفريقين يخدم مصالح بريطانيا.
وفي هذا الوقت بالذات في نهاية عام 1914 ومطلع عام 1915 كان حاييم وايزمن يكتب لأحد أساطين الإمبرياليين س.ب. سكوت محرر مانشستر غارديان: "في حالة وقوع فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني وفي حالة تشجيع بريطانيا استيطان اليهود هناك.. فستستطيع خلال عشرين أو ثلاثين سنة من نقل مليون يهودي أو أكثر إليها فيطورون البلاد ويشكلون حارساً فعالاً يحمي قناة السويس" (كتابه التجربة والخطأ طبعة نيويورك شوكن 1966 ص 149).
وهكذا فمع أن العامل الصهيوني لم يغب عن أساطين الإمبريالية البريطانية فقد اختاروا بين عام 1914 و عام 1916 إهماله.
وإذا كان إدراك أهمية العامل الصهيوني في استراتيجية الإمبريالية البريطانية لم يغب إدراك أهمية هذا العمل في المنافسة بين بريطانيا وفرنسا، فقد كتب رئيس وزراء بريطانيا هربت اسكويث في كتابه "شكريات وتأملات 1852-1928" تحت التاريخين 28 كانون الثاني/ يناير و 13 آذار/ مارس 1915 يصف بعض ملامح مشروع هربرت صموئيل ولاحظ أن "الغريب في الأمر أن يكون نصير المشروع الوحيد الآخر (في الوزارة) لويد جورج ولا حاجة بي للقول انه (لويد جورج) لا يهتم بالمرة باليهود، لا بماهيتهم ولا بمستقبلهم ولكنه يعتقد أنه من انتهاك الحرمة السماح بانتقال الأماكن المقدسة (في فلسطين) إلى حوزة أو حماية "فرنسا اللا إدارية الملحدة" (الجزء 2 ص 71 و 78). لقد تعلم الإمبرياليون منذ وقت طويل تغليف مطامعهم بغلافات الحماس الديني والقلق على مصيره. فلويد جورج، وفي عهد رئاسته الوزارة صدر وعد بلفور. كان في هذا الوقت المبكر من الحرب يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للإمبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال. وفي سبيل ذلك كان مستعداً أن "يمنح الأماكن المقدسة لليهود" حماية لها من "فرنسا اللا إدارية الملحدة"!!